رجلان وامرأة ومعهم طفل كانوا يستقلون مترو الأنفاق، هندامهم يوضح تواضع حالتهم الاجتماعية ، تحمل المرأة الطفل، ومن النظر إليه تعرف أنه مريض، لوهنه الواضح، كما يمكن مشاهدة درجة الضيق التى تتملكهم جميعاً، وفى لحظة مفاجئة بدأ الطفل فى البكاء بطريقة لم أشاهدها من قبل، تتسلل من عينيه قطرات الدمع بهدوء شامخ، حتى رآه أحد الرجلين فأجهش فى البكاء وتبعه الآخر، أما المرأة فضمته بكل حنانها لتهدئته. توقف المترو فى محطة السيدة زينب، ليغادروا، وبعدها أخذ جارهم فى الجلسة يدعو للطفل بالشفاء العاجل، ودار حوار بيننا، عرفت منه أن الطفل يعانى مرضا فى المفاصل، ويحتاج لعلاج دائم، لذا هم يترددون على مستشفى الأطفال بأبوالريش، وقد أنفقوا كل ما يملكون الأب والأم والعم، وعندما عرض عليهم المساعدة أبوا، وقالوا إن هناك فى هذه المستشفى حالات أكثر احتياجاً فوجه مساعدتك لها مباشرة. فتعجبت، كيف لأناس يمرون بهذه الظروف القاسية، يرفضون المساعدة، بل ويطلبون توجيهها لمن يرون أنه أحق منهم! إلا لأنهم شاهدوا عذاب الآخرين، كما شعروا بقسوة ظروفهم، وتذكرت أننا على أبواب الشهر المبارك، وتساءلت، هل يمكن أن أرى أيا من زوار هذه المستشفى أو أمثالها فى حملة إعلانية رمضانية، تخاطب أحاسيس الناس وعواطفهم، بعد أن تبهرك بالصورة والصوت والقصة الدرامية شديدة الدقة والحبكة، فتسلب قلبك من جسدك وتشعرك بالنقص فى إيمانك والدونية فى انسانيتك، ما لم تتحرك صوب الجهة التى يسوق لها الاعلان، كى تدفع بعضاً من المال، حتى تفوز بالأجر والثواب الذى يكتنزه لك الله فى الدنيا والآخرة، هكذا تصور الأمر، تلك الحملات الإعلانية التى تتكرر مراراً ليلاً ونهاراً، دون توقف على كل الفضائيات، وفى إعلانات الشوارع والمطبوعات، وأيضا الإذاعات! كم تتكلف تلك الحملات الاعلانية غير المجانية؟ أغلب الظن بضع مئات من الملايين! وبعد كل هذه السنين من تكرار تلك الحملات و مع الانفاق عليها بكل هذا السفه، هل تعرف كم تكلفت؟ وكم جمعت من جنيهات مازالت تنهمر عليها للعقد الثانى على التوالي، لذا أعيد طرح سؤالى التالى قبل أن نفرغ الشهر الكريم من مضمونه الروحاني، ونحوله إلى شهر التسول وجمع التبرعات، لماذا لم تلزم الدولة كل الجهات التى تم التصريح لها بعمل إعلانات جمع تبرعات منذ بداية عملها وحتى الآن بالكشف عن كم التبرعات ومجالات إنفاقها، وكيف يتم السماح بهذا الكم الضخم من إعلانات التسول دون رقيب أو حسيب؟! وهل هذه الجهات هى الوحيدة التى تحتاج للتبرعات؟ أم أنها الوحيدة التى تستطيع مخاطبة جمهورها المستهدف بشتى الوسائل والطرق لتتمكن من تحقيق هدفها للحصول على قدر معتبر من التبرعات؟! الحقيقة مفجعة، هناك عدد يصعب حصره من المرضي، بعضهم ينتظر دوره لعمل قسطرة للقلب، وقد يمتد الانتظار لأسابيع، مما يعرض حياته للخطر، وآخرون يحتاجون للغسيل الكلوى المستمر وقلة حيلتهم لا تمكنهم من ذلك، لضعف الإمكانات المتاحة فى المستشفيات الحكومية فى ظل منظومة صحية مهترئة، انعكست سلبياتها على أهالينا من البسطاء، والنماذج المتاحة فى هذا الصدد كثيرة! وهنا أطرح سؤالاً للمناقشة، سيما ونحن على أبواب شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار، إنقاذ حياة إنسان أولى بالرعاية أم إطعامه؟ ولنتدبر قوله تعالى «وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا..» سورة المائدة الآية 32. ولا يمكن لأحد إنكار ثواب إطعام الصائم، ولكن لماذا نركز كل الجهود صوب هذا الثواب ونسهو عن غيره، وأيضا لماذا نفعل ذلك فى رمضان، ونترك بقية العام دون حراك؟ إذا كنت تبحث عن إرضاء الله، فلا تتعالى، حينما تريد التصدق بمالك ابتغاء مرضاته، لابد من الاجتهاد وتحرى الدقة من خلال السعى بحثاً عن المحتاجين الذين يتعففون فى طلب المساعدة، فتحسبهم أغنياء من التعفف، والغالبية العظمى منهم لا تملك من الوسائل ما يوضح مدى احتياجهم. لقد صار للرحمة أنين يناجى القلوب الغافلة بعد أن وصلت قسوة الحياة لدرجة لا يحتملها المأزمون، نعم هم صابرون وراضون بما قسمه الله لهم، ولكنهم آملون فى رحمته، التى كانت سبباً فى دخول امرأة النار بسبب قطة حبستها، لا هى أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض، وكانت سبباً أيضا فى دخول رجل الجنة بسبب كلب جاهد ليسقيه وأنقذه من الموت، فإذا كان هذا جزاء الله لمن رحم الحيوان، فما بالنا بجزائه لراحم الإنسان. هذه الكلمات ليست لعيونكم لتقرأها ولكنها لقلوبكم لتتدبرها، ابدأوا شهر صيامكم هذا العام بشكل مختلف، وأدخلوا البهجة فى بيوت المكلومين، فحجم الأموال التى تنفق فى هذا الشهر فقط فى تقديرات البعض تتجاوز عدة مليارات من الجنيهات، ولنا أن نتخيل كيف يمكن أن يسهم جزء ولو يسيرا منها فى إنقاذ حياة الآلاف من الغلابة، ومن ثم السعى للفوز برضا الرحمن الذى أغدق عليك من رزقه، ويسبب الأسباب ليرزقهم، فجاهد بصدق لتكون أحد الأسباب. [email protected] لمزيد من مقالات عماد رحيم