صدق الكاتب الإيرلندى جورج برنارد شو وأبدع عندما كتب بمهارة:«كانت الإنسانية لتكون سعيدة منذ زمن لو أن الرجال استخدموا عبقريتهم فى عدم ارتكاب الحماقات بدل أن يشتغلوا بإصلاح حماقات ارتكبوها» لكن من أين سنأتى برجال يحذرون الحماقة التى أعيت من يداويها، فقدرنا المحتوم الابتلاء بحماقات صنف منهم ومكابدتنا لعلاج آثارها الفادحة وغير المطلوبة فى توقيتها، وموضوعها، ونطاقها، ويبدو أن أصحابها قالوا لأنفسهم إن هذا المجتمع ينقصه الاكتواء بنيران مزيد من التعقيدات والالتباسات الدينية والاجتماعية والتاريخية فلنقم بهمة ونشاط للزج به نحوها غير عابئين بظرفنا الصعب على أكثر من صعيد، وأنهم يعبثون بأساسات لا يجوز خلخلتها وإضعافها. حماقات هؤلاء الغافلين التى ظنوا أنها ستكون سحابة صيف سرعان ما تنقشع لم يفطنوا إلى أن هلاك أى أمة يبدأ من إهالة التراب على رموزها الدينية والوطنية والحط من قدرها، فالشيخ الذى أفتى بتكفير المسيحيين عبر برنامجه المذاع على فضائية خاصة لم يع أنه بكلامه غير الحصيف يقوض أساسا من أسسنا الوطنية الثابتة ممثلا فى الوحدة الوطنية. فقد تربى المصريون الطبيعيون الذين لم يخضعوا لعمليات غسيل دماغ على أن المسلمين والمسيحيين يشكلان جناحى الوطن، وأنهما شركاء متساوون فى الحقوق والواجبات دون نقصان، أو تمييز، فكيف يستقيم الحال وأنت تكفر شريكك الذى أصدرت فرمانًا أميريًا بإلغائه وإسقاطه من الحسبة كلية، ألن يختل الميزان، دون شك سيختل وبشدة ولن يجدى لإعادته لوضعه السليم بيان اعتذار وتبرير لا يُقدم ولا يُؤخر، فالطلقة خرجت من المسدس ولن ترتد إليه، والضرر واقع لا محالة. إن كنت ترى فى المسيحية كفرًا فأنت تعطى مشروعية لاستهداف معتنقيها واستباحة دور عبادتهم وبيوتهم وأموالهم، وهو نفس ما يدعو إليه حرفيا تنظيم داعش الإرهابى وبقية التنظيمات الاجرامية الأخرى التى تستسهل تكفير الآخر بلا وازع ولا رادع ، بمَن فيهم الذين ينطقون بالشهادتين، وقد يترتب على ذلك أن عامة الناس غير المتفقهين فى الدين والجهلاء والأميين سيتعاطفون مع دعوات داعش، ومعاملة المسيحيين بخشونة وصلف، وهو ما سيزيد من الاحتقانات المجتمعية بلا مبرر، وتضاؤل الثقة المتبادلة، ولكى ترمم الثقوب الحادثة فى جدار الوحدة الوطنية جراء هذه الأفعال الرعناء يلزمك وقت وجهد ومثابرة. صاحب قول التكفير لم ينتبه إلى أن فعله يضر بالمساعى الجارية بقيادة الأزهر الشريف لتمهيد طريق الحوار بين الأديان بحثا عن المشترك فيما بينها، وليس نقاط الاختلاف والشقاق، فالانطباع الذى سوف يستخلصه الغرب من الواقعة أن هناك رفضًا للمسيحية، وربما عداء سافر لها فى الأوساط المصرية، حتى لو كان الفعل فرديا، وسوف يتساءل: ما الجدوى والنفع من وراء الحوار إن كنت لا تعترف بوجودى وكيانى من الأصل؟ يحدث هذا بعد أن وضع شيخ الأزهر أحمد الطيب يده فى يد البابا فرانسيس بابا الفاتيكان خلال زيارته للقاهرة وتعانقا تعبيرًا عن الود والوئام وتأكيدا للاحترام المتبادل بين الأديان السماوية، واتفاقهما على أن التفاهم والتعايش بين الأديان يمثل قاعدة صلبة لمواجهة الإرهاب الذى يطال الجميع، وأعلنا رفضهما القاطع والمطلق للإرهاب باسم الدين، فما المنطق خلف تلويث الصورة التى بدأت تتحسن نسبيا، فنحن لا نكف عن دحض المقولات الغربية الرابطة بين الإسلام وصلته بالتشجيع على الإرهاب والمنتشرة فى الميديا الأوروبية والأمريكية، وبعدها نقدم لها بسخاء ما يجعلها ترسخ هذا الاعتقاد بإشاعة أن المصريين يكرهون المسيحية ولا يرحبون بها بينهم. ولعل ما وقع يكون دافعا لنا وللمسئولين فى الفضائيات بوضع ضوابط لدى اختيار مقدمى البرامج الدينية والقضايا المثارة فيها، من خلال بيان الرسالة المراد إيصالها بواسطتها بدقة متناهية، خصوصا ونحن نعد العدة لاستقبال شهر رمضان الكريم الذى يلتف فيه المصريون حول الشاشات لمتابعتها إلى جانب طاولة حافلة بكل ما لذ وطاب من المسلسلات وبرامج المقالب، فهل المرغوب أن تكون جسرًا للتواصل والتفاهم بين الأديان أم العكس، وأن تبحث عن الجوانب الدينية المشتركة، وتبتعد عن الاختلافات العقائدية التى ليس مجال مناقشتها البرامج الفضائية أم التركيز عليها واثارة النفوس وتأجيج الغضب داخلها، القضية ملحة ويجب أن تستوفى حقها من التدقيق والتمحيص، ولا نكتفى بإزاحة شيخ تسبب فى ضجة التكفير واستبدال آخر به. حماقة تقويض الرموز الدينية والوطنية لم يقع فيها شيخ تكفير المسيحيين وحده بل شاركه فيها وللعجب الأسبوع الفائت أديب ومؤرخ له صيته وغرائبه، قرر، لغرض فى نفس يعقوب، نسف عدد من الشخصيات التاريخية البارزة موضع التقدير والتبجيل فى أذهاننا ومراجعنا التاريخية الموثوقة بنعتها بالحقيرة وحبها لسفك الدماء ومحو المنضمين للمعسكر الشيعى وقطع نسلهم، وأنه علينا تعريتها وإزالة صورتها الذهنية الجيدة المستقرة لدينا. الأديب الجهبذ لم يراع فى تقييمه الصادر عند مشاركته فى برنامج من برامج «التوك شو» شرطًا أصيلا من شروط التقييم التاريخي، وهو أن التاريخ لا يعرف الرأى القاطع الذى لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه، وأنه تتعدد الروايات، وأن المنصف المنزه عن الهوى يشير إلى أن الوقائع الفلانية قيل فيها كذا وكذا، وأنه لا يوجد شخص كامل الأوصاف، فالقادة التاريخيون لهم هفواتهم وسقطاتهم وأخطاؤهم البسيطة والكبيرة، مثلهم مثل الأشخاص العاديين الذين يصيبون ويخطئون، فهزيمة 67 كانت ضربة قاصمة للرئيس جمال عبد الناصر ونظامه، لكن ذلك لا ينفى كونه زعيما وطنيا حتى النخاع له حسناته وسيئاته، والأمثلة أكثر من أن تحصى. ومن طرف ظاهر فإن هذا الأديب يُرسخ مفهوم رفض المسلمين للمختلف معهم عقائديا وسياسيا واجتماعيا، وأن نظرته التاريخية هى الصائبة ومن واجنبا الاقتداء بها وتصديقها، إن الرموز الوطنية والتاريخية ليست مقدسة ولا ممنوعا الاقتراب منها، لكن على الخائض فيها مراعاة أصول التقييم وآدابه، وليقرأ شيخ التكفير وأديب الاحتقار بتمعن مقولة سيدنا عيسى عليه السلام: «إنى ما عجزت عن إحياء الموتى، وقد عجزت عن معالجة الأحمق». [email protected] لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي;