يتوجه الناخبون الفرنسيون غدا الأحد الحالى إلى صناديق الاقتراع فى جولة حاسمة للانتخابات الرئاسية، بعد أن انتهت الجولة الأولى فى 23 إبريل بصعود الوسطى إيمانويل ماكرون مرشح «إلى الأمام» بنسبة 24.01%، ومارين لوبان مرشحة حزب الجبهة الوطنية اليمينية بنسبة 21.30%، الوضع الذى يرقى إلى حد الصدام بين رؤيتين متعارضتين تماماً؛ حيث لا يتفق كلاهما على أى موقف أو وجهة نظر مشتركة؛ خاصة فى المجال الاقتصادي والأمني. ويبدو أن الفارق النسبي بين المتسابقين بمثابة زلزال سياسى لأوروبا لأنه يعيد تشكيل مجمل المشهد السياسى الفرنسى الذى يحدد مستقبل أوروبا. والواقع، أن فرنسا تريد التجديد، ومن ثم برز غياب المرشحين التقليديين المتمثلين فى اليمين الكلاسيكى واليسار الاشتراكى، بعد أن أسقط الناخبون فرانسوا فيون حيث حصل على 20.01%، وأسقطوا أيضاً بنوا آمون مرشح الحزب الاشتراكى الذى تفتت حزبه وانهار تماماً حيث حصل على 6.36%. أما جان جاك ميلانشون فحصل على 19.58% وبذلك تحول اليسار الراديكالى إلى جزء أصيل من المشهد السياسى ولكنه لم يتأهل إلى جولة الإعادة، في حين لم يحصد المرشحون الستة الباقين إلا على 8.74%. ولأن مستقبل فرنسا على المحك بدأت حركة واسعة من مجمل الفاعلين يساراً ويميناً بوضع حاجز انتخابى لقطع الطريق أمام مارين لوبان، التى تحاول تقسيم المجتمع بين أصلاء ووافدين، وبين مسيحيين ومسلمين، وقام معظم مرشحى الرئاسة الذين لم يحالفهم الحظ فى الجولة الأولى بتوجيه ناخبيهم للاقتراع للمرشح ماكرون. كما حث الرئيس أولاند الناخبين على دعم ماكرون، وحذر من تداعيات أن تكون مرشحة اليمين المتطرف خليفته. أما الرئيس السابق ساركوزي فقد أعلن أيضاً بأنه سيصوت لماكرون رغم عدم تبنيه لبرنامجه الانتخابي، ولكن فقط لأن البديل سيكون مرشحة اليمين المتطرف. وعلى ذلك اتهمت مارين لوبان مجمل الطبقة السياسية بالمتواطئين للحفاظ على مصالحهم على حساب مصالح الفرنسيين ومشكلاتهم. والواقع، هناك غياب لشخصية كاريزمية مقنعة ذات وزن، وليس من بين المرشحين الرئاسيين من يستطيع أن يقنع معظم الناخبين بأنه الأجدر لتولى رئاسة الجمهورية الفرنسية، وهذا الطرح تؤيده استطلاعات الرأى؛ حيث شكك 43% من الناخبين فى قدرة المرشحين الرئاسيين على الحكم. وربما يؤكد هذا المنحى المظاهرات الشبابية التى خرجت فى 27 إبريل فى وسط باريس احتجاجاً على الانتخابات، حاملة لافتات كتب عليها الا نريد لوبان ولا ماكرون«، وإن كان عدد كبير من الناخبين ولظروف الموازنة مع مرشحة أقصى اليمين يرون أن مرشح «إلى الأمام» هو الأوفر حظاً، حيث بنى معظم طروحاته على تحسين أخلاقيات الحياة السياسية، والتوفيق بين الحرية والحماية. وواضح من خبراته العملية أنه سوف يبعث الدينامية الاقتصادية لفرنسا. ورغم ما يقال عنه بأنه مرشح الأغنياء والعولمة الجامحة، فإنه دعا إلى إصلاحات عدة لمواجهة البطالة؛ ومساعدة الطبقات الوسطى. أما بالنسبة لمكافحة الإرهاب؛ فإنه يؤكد أن تلك المكافحة لا تعنى التحامل على فئة معينة من المواطنين بسبب انتمائهم الدينى، بل خوض المواجهة فى الداخل الفرنسى عبر تعزيز قدرات الأجهزة الاستخباراتية. ولكن إذا كانت المؤشرات تعطى الأفضلية لفوز كبير لإيمانويل ماكرون بنسبة 65%؛ خاصة بعد حصوله على دعم كبير من اليسار واليمين؛ إضافة إلى دعم المنحدرين من أصول عربية ومسلمة والذين يشكلون 5% من الناخبين، فإن انعدام اليقين - خاصة بعد تأكيد البعض امتناعهم عن التصويت - ربما يفتح الباب أمام احتمال انتصار لوبان التى قدمت نفسها على أنها مرشحة الشعب. والواقع، تحاول مرشحة أقصى اليمين تبسيط المعادلة من خلال وضع حد للهجرة الشرعية وطرد ما تسميهم بالأجانب، ومكافحة المد الإسلامى الراديكالى، والتمسك بالهوية العلمانية الفرنسية، والانسحاب من الاتحاد الأوروبى، إضافة إلى العودة للفرانك الفرنسى بعيداً عن اليورو، الذى ربما يؤدى إلى كارثة اقتصادية، لأن الاتحاد الأوروبى حينئذ لن يكون قادراً على الصمود كمنظومة اقتصادية من دون ثانى أكبر قوى اقتصادية فى أوروبا بعد ألمانيا. وعلى أي حال، تحاول زعيمة حزب الجبهة الوطنية تقويض فرص ماكرون من خلال الانتقال بحملتها إلى جنوبفرنسا وتصوير نفسها وكأنها الحامية للفرنسى البسيط؛ ويرى البعض أن لوبان تلعب على أوتار أنين العاطلين عن العمل وتدافع عن حقوق العمال والموظفين؛ خاصة أن هناك نحو 7 ملايين عاطل عن العمل و 9 ملايين فقير. ويبدو أن هذه الأفكار والطروحات بل والزخم الحادث من لوبان قد تزيد من التأييد لها حيث باتت تجد أصداءً إيجابية لدى جزء من الرأى العام؛ خاصة بعد التحالف بينها وبين مرشح الجولة الأولى نيكولا دوبون إنيان رئيس حزب «انهضى يا فرنسا» وتعهدها له بتعيينه رئيساً للوزراء حال انتخابها رئيسة، وذلك في مسعى لجذب من صوتوا له. كما أعلنت فى وقت سابق تنحيها عن رئاسة حزب الجبهة الوطنية، حتى تكون فوق الاعتبارات الحزبية فى محاولة منها لكسب ود من منحوا أصواتهم للمرشحين فيون وميلانشون. ورغم أن التحالف بينها وبين دوبون لا يغير من مسار المعركة الانتخابية بشكل ملموس، خاصة أنه لم يحصل فى الجولة الأولى سوى على 4.7%، فإن أهمية هذا التحالف تكمن فى كونه أدخل فى ذهن الناخب الفرنسى أن الطريق لم يعد موصداً أمام مرشحة أقصى اليمين، كما أنها لم تعد تخيف الفرنسيين، وهذا ما أكدته استطلاعات الرأى حيث ارتفعت نسبة نوايا التصويت للوبان 6 نقاط مما يعنى أن منافسها فى حركة تنازلية. أضف إلى ذلك قام مرشح الجولة الأولى ميلانشون برفض الدعوة لمناصريه للتصويت لماكرون رغم الانتقادات والضغوط التى مارسها عليه كل من اليمين واليسار لإعادة النظر فى ذلك القرار. وأخيراً يمكن القول: إذا كانت مرشحة أقصى اليمين تحاول توسيع قاعدتها الانتخابية لاجتذاب شرائح سياسية واجتماعية، وإذا كانت اللغة الشعبوية تعيد ترتيب الأولويات وتجد تأييداً من شرائح متعددة، خاصة مع حالة الرعب من العمليات الإرهابية التى يقوم بها تنظيم داعش؛ فإن محاولة إقناع الناخب الفرنسى بمرشحة أقصى اليمين مارلين لوبان لن تكن مستحيلة، وإن كان هذا لا يعنى انتصارها يقيناً وإنما يعنى فقط أنه ليس مستبعداً، وربما تحدث مفاجآت فى اللحظة الأخيرة ترجح كفة أحد المرشحين.. وعلى أي وجه جاءت حصيلة الانتخابات، فإن من سيصل إلى قصر الإليزيه سيلاقى مشروعه السياسى صعوبات كبرى وربما سيكون عاجزاً عن توفير أكثرية برلمانية يستند إليها بحيث تؤمن الاستقرار السياسى لفرنسا فى السنوات الخمس القادمة؛ خاصة المرشح الوسطى إيمانويل ماكرون الذى حدد موقعه بأنه ليس من اليمين ولا من اليسار. [email protected] لمزيد من مقالات د. حازم محفوظ;