طوبي للرحماء.. طوبي للأتقياء.. طوبي للودعاء.. طوبي للحزاني.. طوبي لصانعي السلام.. لانهم ابناء الله يدعون: هكذا قال المسيح عيسي ابن مريم عليه السلام قبل الزمان بزمان.. وهكذا تفعل يد الإرهاب الأسود بهم أمام أعيننا عن آخر الزمان! اطارت النوم من عيني كلمات المهندس سمير متري جيد خبير المفاعلات النووية ورفيقي في رحلات الكشف في أديرة وادي النطرون عن رفات نبي عظيم هو عندهم في المسيحية اسمه يوحنا المعمدان.. وعندنا نحن في الإسلام يحيي بن زكريا عليه السلام.. عندما قال لي: لقد قتلوا البراءة.. لقد فجروا الرحمة.. لقد عادت قبيلة الشر لتفجر كنيستين في يوم عيد.. كنيسة مارجرجس في طنطا.. والكنيسة المرقسية في الإسكندرية ولتقتل بغير رحمة 48 شهيدا وثلاثة أضعافهم من المصابين لا ذنب لهم ولا جريمة إلا أنهم لبسوا لباس العيد وأخذوا العيدية وراحوا يحتفلون مع اخوانهم بالعيد.. فإذا بيد الغدر تحصد أرواحهم في غير رحمة وفي يوم عيد.. وأحزني يا كل أمهات الأرض! قلت له: رغم أننا يا صديقي العزيز كنا قبل أسبوع واحد داخل مجموعة كنائس مصر القديمة.. بدعوة كريمة من العالم بكتب الله والكتاب المقدس الذي اسمه الأب انجليوس جرجس راعي كنيسة المغارة والمبحر مع السيد المسيح في رحلته إلي مصر في حضن أمه غضا صغيرا فوق حمار يقوده القديس يوسف النجار هربا من طغيان هيرودوس الحاكم الروماني الطاغية في فلسطين قبل نحو ألفي سنة تزيد سبع عشرة.. كنا داخل الكهف الذي اختبأ فيه السيد المسيح طفلا صغيرا في حضن أمه مريم العذراء أطهر نساء الأرض.. وشاهدنا كم كان السلام والحب والمودة والصفاء يظلل الجميع.. من أهل مصر وزوار مصر الذين جاءوا يتباركون بالكهف ويخلعون من قلوبهم أدران الدنيا وشرور الإنسان! .......... .......... مازلت أذكر حوارا دار بينى وبين صاحب أعظم ملحمة من الابحار في بحور التراث الديني منذ بدء الخليقة والذي اسمه د.مصطفي محمود ونحن جلوس بحضرة إخناتون العظيم داخل أطلال مدينته التي دمروها والتي اسمها اخيتاتون علي الضفة المقابلة لمدينة طيبة التي أصبح اسمها هو الأقصر.. ينادونها به بعد أن عاشت 36 قرنا وهي تحمل هذا الاسم الذي منحه لها كهنة الإله آمون بعد رحيل هذا النبي المصري الذي عرف الله الواحد الأحد قبل الزمان بزمان! كنا نتجول حزاني محبطين فيما بقي من اطلال مدينة اخيناتون قال لي فيما اذكر: الا تعرف أن كهنة ورابايات اليهود في إسرائيل كانوا يتصورون «يهوا» وهو الله عندهم في صورة بشرية: يأكل ويشرب ويفتك بأعدائه.. وكانوا يتصورون الجنة والنار نعيما وعذابا دنيويا وجزاء فوريا ينالونه علي أعمالهم قبل الموت. ولا يأتي ذكر البعث والآخرة والجنة والنار إلا في آيات متأخرة من التوراة، يتأخر تاريخها إلي مائتي سنة قبل ميلاد المسيح. ولا نقرأ عن الإله المنزه المجرد عن التشبيه والصفات إلا علي لسان أنبياء متأخرين مثل «أشعيا». ولم تترسخ تلك الوحدانية إلا بعد تبشير عشرات الأنبياء الذين لقوا حتفهم ذبحا وتقتيلا واضطهادا من بعد موسي عليه السلام ولا نجد أمة حفلت بهذا العدد من الأنبياء.. ضاعت دعواتهم مجرد صرخة في واد.. ودبحوا وصلبوا وشردوا تشريدا.. كأمة اليهود. ثم يأتي «المسيح» بالنور كله في وقته ليري أقواما يعيشون فى غلظة حسية مادية، فيركز دعوته علي الحب والعفو والصفح والزهد في الدنيا. ويقول لنا أحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك. أحب قريبك كنفسك. أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، صلوا لأجل الذين يسيئون إليكم، لكي تكونوا أشبه بأبيكم الذي في السموات فانه يشرق بشمسه علي الأشرار والصالحين، ويفيض برزقه علي الأبرار والظالمين. ثم يزعق بأعلي صوته في البرية: طوبي للرحماء.. طوبي للاتقياء.. طوبي للودعاء.. طوبي للحزاني.. طوبي لصانعي السلام لأنهم ابناء الله يدعون. قد سمعتم أنه قيل للقدماء: لا تزن.. أما أنا فأقول لكم: إن كل من ينظر إلي امرأة ليشتهيها فقد زني بها في قلبه. وسمعتم أنه قيل: عين بعين وسن بسن.. أما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر بالشر بل: من لطمك علي خدك الأيمن فأعطه الأيسر أيضا. ثم يتابع كلامه بقوله: متي قدمت صدقة فلتقدمها في الخفاء، فلا تعرف شمالك ما فعلت يمينك. لا يقدر أحد أن يخدم سيدين.. كذلك لا يقدر أحد أن يكون في خدمة الله وفي خدمة المال معا. لا تهتموا بما تأكلون ولا بما تشربون ولا بما تلبسون. انظروا إلي طيور السماء: إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع في مخازن، ألستم أنتم أجدر منها؟ ثم ينظر المسيح عيسي ابن مريم إلي فوق ويقول: تأملوا زهور الحقل كيف يلبسها الله أجمل الثياب دون أن تتعب أو تغزل.. وإذا كان الله يفعل هذا بعشب الحقل الذي ينمو اليوم ويطرح غدا إلي التنور.. فما أسهل عليه أن يلبسكم أنتم يا قليلي الإيمان! ليس كل من يقول يارب يارب يدخل ملكوت السموات بل من يحقق إرادة الأب الذي في السموات. لا تقتنوا ذهبا ولا فضة ولا نحاسا، ولا ثوبين ولا حذاءين افعلوا الخير بلا أجر. مجانا أخذتم الخير من ربكم، مجانا أعطوا.. نصفق كلنا للكلم الطيب من فم نبي عظيم.. قلت لرفيق دربي وصديقي في رحلة الإيمان والبحث في كتاب السنكسار أقدم كتاب كتبه ومازالوا رهبان وقساوسة وبطاركة الكنائس والاديرة في طول مصر وعرضها: لا ننسي هنا ما قاله كلمة الله في الأرض: إني أريد رحمة لا ذبيحة. الحق أقول لكم: إن مرور جمل من ثقب إبرة، أيسر من دخول غني إلي ملكوت الله. ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان بل ما يخرج من الفم هو الذي ينجس. من أراد أن يخلص نفسه أهلكها ومن أهلك نفسه من أجلي وجدها، لأنه ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ وأي فداء سوف يعوضه عن خسران نفسه؟ من كان عنده من الإيمان قدر حبة خردل وقال للجبل انتقل من مكانك لانتقل من مكانه. تصوروا أنه بهذه الكلمات الصافية المحلقة كان السيد المسيح عليه صلوات الله وسلامه يخاطب مجتمعا من المرابين والسفاحين والقتلة قست قلوبهم وغلظت مشاعرهم، واشتغل أحبارهم بالربا ونصبوا موائدهم يبيعون ويشترون ويشربون في قلب الهيكل! قلت: يا سبحان الله، هكذا الأنبياء دائما.. وكذلك رسل الحق والخير والسلام في كل زمان وفي كل مكان! .......... .......... أمامي كان يقف العالم الرائع والأديب الملهم والمحقق العظيم الذي اسمه مصطفي محمود والشمس من خلف المعابد ترسل إشعاعاتها.. وهو يقول وكأنه يقرأ في كتاب لا نراه: ويقلب المسيح تلك الموائد ويهتف بهم: إن بيتي بيت الصلاة يدعي، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص.. ثم يجيب علي من يدعوه بالمعلم الصالح قائلا: لماذا تدعوني صالحا؟ ليس أحد صالحا إلا واحد هو الله. وفي مكان آخر يأمر تلاميذه أمرا صريحا بالتوحيد، نافيا عن نفسه أي شبهة في الألوهية. لا تدعوا لكم أبا علي الأرض لأن اباكم واحد هو الذي في السموات. «الإصحاح 23 من إنجيل متي». وفي إنجيل لوقا الإصحاح الرابع يخاطب إبليس قائلا: »اذهب يا شيطان، إنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد». رافضا السجود للشيطان ولو أعطاه ملك الأرض، ومعلنا سجوده لله وحده. ويعلو صوته من داخل المعبد والشمس تأوي إلي خدرها بعد يوم اشرقت سماءها علي الكون كله وهو يقول لنا: مرة أخري يا رفاقي نحن أمام موحد عظيم، وديانة رفيعة. .......... .......... من حق أهل مصر والناس في مصر أن يعرف العالم وهم بتعرضون لهذه الهجمة الشرسة المروعة في ملف الإرهاب العالمي الذي لا يعرف أحد متي يتوقف.. أن يعرف العالم كله أن المصريين هم أول من عرف الله.. وكما يقول هنا »هيرودوت« إن المصريين أول الموحدين في العالم، وأن بقية العالم أخذ الدين عنهم، فأخذت الهند شعائرها واليونان عقائدها من مصر. ونحن نري بداية هذا التوحيد في عصر «أمنحوتب» الثالث في تلك الترنيمة المحفورة علي لوحة بالمتحف البريطاني.. وهي في صورة ابتهال ومناجاة للإله: أيها الصانع الذي صورت نفسك بنفسك وصنعت أعضاءك بيديك. أيها الخالق الذي لم يخلقك أحد. الوحيد المنقطع القرين في صفاتك. والراعي ذو القوة والبأس. والصانع الخالد في آثاره التي لا يحيط بها حصر. ويصل هذا التوحيد إلي ذروة النقاء والتجريد علي يد أخناتون.. فنقرأ في أنشودته الخالدة لآتون هذه السطور الملهمة: إنك بعيد متعال. ولكنك تشرق علي وجوه الناس. إنك تمنح الحياة للجنين في بطن أمه. وتعني به طفلا. وتسكن روعه فلا يبكي. وتفتح فمه وتعلمه الكلام. وتدبر له ما يحتاج إليه في حياته. وتعلم الفرخ كيف يثقب بيضته ويخرج. وما أكثر مخلوقاتك! يا واحد يا أحد ولا شبيه لك. لقد خلقت الأرض حسبما تهوي خلقتها وحدك ولا شريك معك. وخلقت ما عليها من إنسان وحيوان. ودبرت لكل مخلوق حاجاته. وقدرت له أيامه المعدودة. وجعلت الناس أمما وقبائل ولغات متعددة. وجعلت لهم الشتاء ليتعرفوا علي بردك. والصيف ليذوقوا حرارتك. وصورتهم في بطون أمهاتهم بالصور التي تشاء. وأنزلت لهم الماء من السماء. ليجري أمواجا تتدافع وتروي حقولهم. ما أعظم تدبيرك يا سيد الأبدية! إنك في قلبي. .......... .......... هكذا كانت مصر.. وهكذا كان حالها ذروة في التوحيد والتجريد.. وعبادة اله واحد لاشريك له.. وسمو في المنهج الأخلاقي والاجتماعي.. والعطاء للحق والخير والجمال.. .......... .......... نصفق كلنا للكلم الطيب ولكننا كلنا محزونون لما جري في بلدنا وفي أرضنا.. نهر الدم الذي سال في مكان عبادة الرب!{ Email:[email protected] هكذا كانت مصر.. وهكذا كان حالها ذروة في التوحيد والتجريد.. وعبادة اله واحد لاشريك له.. وسمو في المنهج الأخلاقي والاجتماعي.. والعطاء للحق والخير والجمال.. لمزيد من مقالات عزت السعدنى;