خرجت من عزاء الصديق طلعت الشايب الذى ودعته الحياة الثقافية منذ أيام، وكنت قبل ذلك بأيام فى عزاء الأخ العزيز أحمد محمود، المترجم الكبير، وقبل ذلك كنا فى عزاءات مستمرة امتدت من العزاء فى جمال الغيطانى إلى عبد الرحمن الأبنودى إلى سيد حجاب، وبعده سيد ياسين، وذلك فى سلسلة من العزاءات التى لم تنته بعد. ولكن يبدو أن هذا الحزن الذى نعيشه لن يتوقف، فما إن وصلت إلى منزلى بعد عزاء طلعت الشايب وجلست أسترد أنفاسى المتلاحقة من كثرة هذه العزاءات المتكررة التى تنبئ عن رحيل جيل كامل أنتسب إليه، إلا وقد فاجأنى التليفون بصوت صديقى العزيز على أبو شادى يقول لي: أحمل إليك خبرا حزينا، وأرجو أن تتمالك نفسك، فقلت له فى لهفة: ما الذى حدث؟ فقال لي: البقية فى حياتك فى سمير فريد الذى رحل عنا منذ دقائق، وستخرج جنازته فيما استقر عليه الأمر من مسجد مصطفى محمود بعد صلاة الظهر. وأغلق على أبو شادى سماعة التليفون وتركني، وكنت محاطا بعدد من تلامذتى الذين جاءوا للاطمئنان عليّ وتحيتى بمناسبة مرور عيد ميلادى الثالث والسبعين الذى احتفلت به بعيدا عنهم مع أصدقاء تونسيين أعزاء. وقد سبق أن كتبت عن ذلك فى هذه الجريدة. والحق أننى لم أكن مع تلامذتى الأحباء قط، فقد ملأنى داخليا حزن دفين على رحيل سمير فريد الذى أعتبره من أنقى وأشرف المثقفين المصريين، وأكثرهم رغبة فى العمل الدؤوب على نشر الوعى بالسينما التى ظل يراها أفقا واعدا للمستقبل ومن أجل المستقبل، كما ظل يراها وسيلة سحرية لاستعادة الماضى من منظور جديد ومن تشريح الحاضر بطريقة تدفع إلى تثويره. ولإدراكى بقيمته ومحبتى الصافية له، حرصت على صداقته منذ أن قرأت مقالاته الأولى حتى من قبل أن تنشأ جريدة المصرى اليوم الذى اعتاد أن يطالعنا فى صفحتها قبل الأخيرة كل يوم بعمود له لا يزال من أهم وأرقى الأعمدة الخاصة بالرأى والمتصلة بالسينما المصرية. وتركت نفسى أسترجع ذكرياتى مع سمير فريد، ولكن من قرب النهاية، وليس من البداية. وها أنذا أراه فى عزاء زوجتى (رحمها الله)، وهو قادم لكى يحتضننى ويعزينى فيها، ويقول لى بصوت متهدج واهن: إنه أصر على أن يترك الفراش بعد جلسة العلاج الكيميائي، وأن يأتى متكئا على «مني» (زوجته التى لا نزال نكن لها كل الحب والتقدير)، كى يعزينى فى وفاة زوجتى التى كان يعرفها حق المعرفة، والتى كانت تؤثره بالحنو والاحترام والتقدير على السواء، وذلك منذ أن كانت تعمل فى الرقابة على المصنفات الفنية، وتتحدث عن حاجتنا إلى ناقد مهم يشرح للجميع بلغة بسيطة أهم ما يحتاجه القارئ من معارف وقيم جمالية خاصة بالسينما، تصل إلى القلب والعقل معا لأنها صادرة عنهما. وتباعدت بى ذكريات الموت، فتذكرت يوم عزاء ابنتى المرحومة «سهير» التى تركت الحياة، وهى فى مطلع عمرها الأكاديمي، باحثة متخصصة فى المسرح الإسباني، والتى كانت تختص عمها سمير بكثير من الحب والاحترام. ودارت الذكريات فى رأسي، وتذكرت ما كتبه سمير عن عزائها ومدى الزحام الذى كان فيه. والغريب أن نفس الزحام، بل أشد منه هو ما رأيته عندما ذهبت إلى مسجد عمر مكرم لكى أحضر عزاء صديقى الحميم سمير فريد، فقد كان المسجد يزدحم بمن فيه والجميع يقف فى صفوف، تنتظر دخول المسجد لأداء واجب العزاء، مما اضطر معه المقرئ، بعد صلاة العشاء، إلى أن يكتفى بآية أو آيتين كى يتيح للمعزين فرصة العزاء وإخلاء المكان لغيرهم. وهكذا وجدتنى أدخل فى طابور من المعزين متداخلا مع طابور آخر أكثر من الخارجين. ولم يكن ذلك بالطبع سوى دليل آخر على الحب والتقدير اللذين كانا يلقاهما سمير فريد من كل الطوائف والمجموعات التى عرفته، والتى كانت– ولا تزال- تمنحه الاحترام والحب لما كان ينطوى عليه من نزاهة واستقامة وأمانة مع النفس، واحترام كامل لما كان يقول، وحب أكثر للفن الذى يفرض على من يحبه أن يجمع إليه محبة فنون أخرى تصل ما بين الشعر والتصوير والأوبرا والموسيقى والمسرح الذى بدأ سمير فريد حياته بالتخصص فيه. وأنا من جيل سمير فريد، وهو مولود قبلى بعام واحد سنة 1943، ولكن الفارق أننى دخلت كلية الآداب لكى أكون تلميذا لطه حسين، بينما دخل هو معهد الفنون المسرحية قسم النقد لكى يكون تلميذا لتلامذة طه حسين الذين تحولوا إلى أساتذة لي: محمد مندور، ومحمد غنيمى هلال، ومحمد القصاص، ولويس عوض، وغيرهم من أعلام وكبار نقاد الحياة الأدبية فى ذلك الوقت الذى كان يتكون ويتشكل فيه جيل الستينيات قبل أن يبدأ فى عطائه الباهر. وقد تخرج سمير فريد فى معهد الفنون المسرحية سنة 1965، وهى السنة نفسها التى تخرجت فيها من قسم اللغة العربية فى آداب القاهرة، ولكنه كان مختلفا عنى فى التخصص ولكن ليس فى الاتجاه، وأتذكر أنه قبل تخرجنا بعام كتب صلاح عبد الصبور رائعته المسرحية «مأساة الحلاج»، كما شاهدنا ما قدمه يوسف إدريس فى مسرحياته الحوارية، ابتداء من «الفرافير» وليست انتهاء ب «المخططين». وكان من الطبيعى أن نشترك أنا وسمير فريد وأبناء جيلنا فى الوقوع تحت تأثير العوامل الثقافية نفسها، ابتداء من تمتعنا بمجانية التعليم، ومرورا بخضوعنا للتأثير الثقافى الذى تركه فى عقولنا الغضة كبار مثقفى ومبدعى هذا الزمان الذى سبق هزيمة 67. أعنى كتابات محمد حسنين هيكل السياسية فى الأهرام، فضلا عن لطفى الخولى وحسين فوزى الذى كان يشرح لنا سيمفونية عالمية فى البرنامج العام كل أسبوع، وعبد الرحمن الشرقاوى الذى كنا نذهب لمشاهدة مسرحياته، ابتداء من «مأساة جميلة» وليس انتهاء بآخر مسرحياته التى كانت نقدا لديكتاتورية الزمن الناصري، وبحثا عن قيمة الحرية التى افتقدها عبد الرحمن الشرقاوى فى مسرحيته «الفتى مهران» تماما، كما افتقدها كتاب أكبر أمثال توفيق الحكيم فى «بنك القلق» و»سائق القطار» وغيرهما من المسرحيات الطليعية التى أخذت طابع اللامعقول فى الوقت نفسه. ويمكن أن نضيف إلى هؤلاء جميعا نجيب محفوظ الذى كان يخوض بنا دروبا جديدة فى الأدب منذ العام الأخير فى الستينيات، حينما كتب رواية «أولاد حارتنا» مسلسلة فى جريدة الأهرام التى أصر هيكل– رحمه الله- على أن تنشر كاملة، فمنحنا فرصة قراءة هذا العمل الفريد الذى فتح أمام وجداننا وحفر فيه الأقنوم المقدس الأول من أقانيم سمير فريد، وهو الحرية التى لم يكف عن الدفاع عنها وطلبها للآخرين قبل أن يطلبها لنفسه فى كل عمل إبداعى حقيقي. ومن المؤكد أن البيئة الأسرية لسمير فريد الذى كان والده الأستاذ سعيد فريد المحرر بجريدة الأهرام، لها دور تأسيسى فى تكوين سمير، ومن ثم مساعدته على اختيار الطريق الذى سرعان ما التقينا فيه، وهو طريق النقد الذى اختاره لنفسه بعد تخرجه فى معهد الفنون المسرحية. وكان من الميسور أن يعمل سمير فريد فى جريدة الأهرام مع والده المحرر فيها، لكنه رفض ذلك حتى لا ينسب أى نجاح يحققه إلى والده، فاختار أن يعمل فى جريدة الجمهورية التى كانت تحت إشراف المرحوم فتحى غانم، فى ذلك الوقت، ووجد فيها مدرسة أخرى تبدأ من طه حسين الذى كان يكتب فى الجمهورية، فضلا عن غيره من كبار الكتاب، وكان منهم أستاذه محمد مندور وكوكبة أخرى من الأساتذة الذين أثروا عقولنا وفتحوها على القيم الأساسية للثورة والنهضة فى آن، وهى قيم الحرية، والعدالة بنوعيها المعرفى والاجتماعي، والكرامة الإنسانية التى تجعلنا نشعر أننا ننتسب إلى الدنيا كلها، ونشارك أبناء المعمورة الفاضلة فى قيمنا الإنسانية التى تجعل منا بشرا أسوياء لا نقبل أى قيد على الحرية، ولا أى عائق يصد العدل الذى يتأسس به الملك الحق. ولأن هذه القيم لم تكن هى السائدة فى ذلك الوقت، فقد حدثت كارثة العام السابع والستين التى فتحت أعيننا على أنواع السراب الذى كنا نعيش فيه ووجهت أذهاننا إلى ضرورة أن ننتزع حقوقنا الأساسية وقيمنا الإنسانية لكى نؤسس لعالم جديد واعد، كان عبد الناصر نفسه أحد الحالمين به، لكن للأسف كانت هزيمة 67 قد تركته حطاما لم يبق منه سوى القدرة على تجميع أوصال الجيش المصري، وإعادة بنائه من جديد إلى جانب الفراغ من بناء أهم مشروع مصرى قومى إلى الآن، وهو السد العالى الذى كادت تضيع ثماره فى هذه الأيام التى أصبح يهددنا فيها سد النهضة الإثيوبي. وخلال هذين العامين تغير وعى سمير فريد، وشيئا فشيئا انتقل من المسرح إلى السينما، لا بوصفهما فنين متباعدين، ولكن بوصفهما فنين متقاربين. فالحوارية فى الفن الأول تقود إلى المشهدية فى الفن الثاني، وبراعة الإخراج فى الفن الأول تؤدى إلى أن يكون الإخراج هو العنصر التكوينى الأساسى فى الفن الثاني. وهكذا انتقل سمير فريد من نقد فن بصرى إلى فن بصرى آخر، وهو السينما التى مع الوقت وعبر اكتشافات ذاتية، بدأ يتعرف طريقه فيها، ويعرف من مزالق هذا الطريق وخصوصياته ما يدفعه إلى التوغل والتمعن فى الدرس كى يكون جديرا بهذه الصفة المهيبة التى لا نعرف قدرها إلى اليوم، وهى صفة «الناقد السينمائي». ولا أظن أننا إلى اليوم نعرف قدر هذا الناقد والكيفيات التى يتكون بها والمساقات التى ينبغى أن يمضى فيها وعشرات التقنيات التى ينبغى أن يحسنها، وكيف يجمع ما بين ذائقة إدراك الأدب وذائقة إدراك الصورة، أو يعرف المعنى الدقيق لما قاله الناقد أ. هاوزر فى كتابه الرائع «التاريخ الاجتماعى للفن»، وهو الكتاب الذى أدرك ما كان له من أثر على وعى سمير، خصوصا عندما أوصلته فصول هذا الكتاب إلى الإدراك الكامل لمعنى أننا نعيش فى عصر السينما، وأن هذا الفن هو المفتاح السحرى الذى تتجمع فيه كل الفنون وتتوافق وتتجاوب معا فى معزوفة صوتية وكلامية ونغمية وبصرية فى آن. هكذا أصبح سمير فريد ناقدا سينمائيا متابعا للأفلام، حريصا على المضى فيها. ومن المؤكد أنه قد أفاد من جهود المرحوم أحمد الحضرى ورفاقه الذين كانوا وراء إنشاء نادى السينما الذى كان يصدر عقب كل فيلم يعرضه من أفلام الطليعة السينمائية كتيبا يحمل تعريفا بهذا الفيلم الجديد. وليت واحدا من أصدقاء سمير فريد الذين هم أصدقائى لحسن الحظ، يكتب عن دور نادى السينما فى التكوين الثقافى لنا وفى دفع من تخصص فينا فى هذا الفن الجميل والجليل معا. فمن المؤكد أن هذا النادى كان هو المدرسة الأولى أو الطريقة الأولى فى النقد التطبيقى الذى كان على كل متخصص فى الفن السينمائي– أو حتى أى محب له- أن يمر بها. هكذا أصبح سمير فريد ناقدا سينمائيا مستعدا لمواصلة مشاق الرحلة، مصحوبا بنجميه المضيئين على كتفيه: الحرية والعدل، وحاديه على الطريق قيم الإنسانية والتسامح والشعور بأننا ننتمى إلى عالم أوسع بكثير من أن تحدده أو تختزله إيديولوچيات ضيقة أو نزعات مذهبية صغيرة. وقد اختار سمير فريد ليبرالية طه حسين التى تجمع بين الحرية والعدل وانفتاح كبار فنانى الحجر واللون، ابتداء من محمود مختار وليس انتهاء بأدهم وسيف وانلي. وقد انطلق سمير فريد فى أرض صعبة لم يكن معه فيها الكثيرون، ولكنه كان مزودا بالحب فى ما يعمل وبالحرص على الإتقان والتعلم الدائم والإفادة المستمرة من كل مؤتمر سينمائى يحضره. وما أكثر ما دعانى كى أذهب معه إلى المؤتمرات السينمائية العالمية!، وذلك قبل أن توجد هذه المهرجانات الكثيرة على امتداد العالم العربي، والتى أصبح فيها التنافس بالمال محل التنافس فى القيمة والإتقان. وظل سمير فريد محافظا على قلمه، جامعا بين محبة الأدب القومى والعالمي، وعشق هذا الفن الفريد الذى ندخل بسحره دنيا هى مزيج من واقع الاحتمال والإمكان والضرورة، كى نحيل الضرورة إلى حرية والاحتمال إلى واقع. فالفن هو تغليب الحرية على الضرورة. والنقد هو الانحياز إلى الحرية وقيم الإنسانية، بعيدا عن أى تعصب دينى أو عرقى أو مذهبي. ولهذا تتباعد كتب سمير فريد جامعة ما بين مجالات مختلفة يصل بينها جميعا هذا العشق الذى ظل منطويا عليه كأنه اللهب المقدس الذى تتوقد شعلته فى الضلوع، والتى لا تنطفئ إلا بانطفاء الحياة نفسها. رحم الله سمير فريد، ورحمنا جميعا معه، فقد اختار طريق النقاء الأسمى تاركا إيانا فى طريق البقاء الأقسي.