بعض من أخطر علامات أزماتنا التاريخية والفكرية والسياسية الكبري، تتمثل فى إعادة إنتاج الأفكار سابقة التجهيز التى تتسم بالعمومية المفرطة، والسيولة، والغموض، والإجابات النمطية والسريعة على أسئلة وأزمات قديمة وجديدة تتسم بالتعقيد والتركيب. يتحدثون عن التطرف والثقافة والتعليم الدينى والعام والجامعى وسياساته ومناهجه، ويستدعون ذات «التحليلات» والتوصيفات والإجابات، واللغة والأفكار الركيكة وهو ما يتجلى فى غياب الرؤى والسياسات القائمة على البحوث والتفكير السياسى والاجتماعى والاقتصادى الخلاق، المستوعب للتجارب الكونية المقارنة والناجحة فى التنمية الشاملة والمستدامة، وفى العمل والتخطيط السياسي، وفى إدارة الأزمات، وفى نقل الخبرات الخارجية واستيعابها، وتوظيف بعض ما يصلح لاستزراعه فى الثقافة والسياسة والإدارة المصرية. هذا العقل السطحى المسيطر، نقلى بامتياز ولا يختلف نوعيًا عن العقل الدينى النقلى والمتزمت، والذى يعيد إنتاج مقولاته المحفوظة، وأسئلته وإجاباته وقياساته وإجماعه القديم وأعرافه ومصالحه التى تشكلت فى بعض مراحل تاريخ الفقه الإسلامي. لا يوجد اختلافات نوعية فارقة بين العقل النقلى «المدنى» المخلط بالموروثات والمرويات الدينية الوضعية، وبين العقل الدينى أيًا كان-، كليهما تحمله لغة شعارية وأمثولية تتسم بالعمومية والشمولية والبداهة تبًا لها - وكأنها حقائق مطلقة غادرت تاريخها وسياقاتها وجغرافيتها التاريخية والبشرية والاجتماعية، والسياسية، وأصبحت فوق الزمان والمكان والمشكلات والأزمات والأسئلة والتاريخ. عقل اللاعقل، والتشخيص والتفكيك، لأن فعل التفكير والنقد والمراجعات، وإبداع الرؤى والتحليلات والتفسيرات، غائب! الفعل العقلي، هو نقدى بامتياز، وهو فعل قطيعة معرفية مع أنساق معرفية ومفاهيم وأطروحات وأفكار ومقولات سادت، ثم تم تفكيكها ونقدها، وتجاوزها، وهذا يتم من خلال المقاربات المنهجية الجديدة، والقراءات المغايرة للظواهر الاجتماعية والدينية والسياسية ... إلخ. نحن تخلفنا وتركنا أجيالا وراء أخرى أسيرة التسلطية، والتفكير النمطى الجاهز، والمقولات النقلية الموروثة التى تحولت إلى دين من دون الدين، لأننا غادرنا عصرنا الهادر بالتحولات إلى عصور غابرة نتلقى منها الأفكار الوضعية الموروثة حول الدين، لتكون هاديًا ومرشدًا لنا فى التعامل مع عصرنا البالغ التعقيد، نأخذ بعضًا من قشوره السطحية، وبعضًا من مصطلحاته دون مضامينها ودلالاتها- لكى نعبر عن أفكار قديمة لم تعد صالحة ولا تثير الدهشة قط! من هنا يبدو عقل اللاعقل السائد لا تراكمى ولا يستوعب التجارب السابقة، ويعيد إنتاج أخطائه واختلالاته المتراكمة مجددًا، لأنه لا يدرس ولا يحلل ولا ينقد ذاته ومقارباته وخطاباته. عقل اللاعقل النخبوى السطحى والنقلى بامتياز يكره المواهب والكفاءات، والآراء التى تنطق بالمعرفة والنقد، لأنه يكره المساءلة ويخشى المسئولية. عقل اتباعى وتكراري، يريد إنتاج وزرع أفكاره الموروثة فى الأمة كلها، ويستنسخ ذاته مجددًا، كى يحيا. عقل اللاعقل اللاتاريخى يعيش عزلته الوحشية مطمئنًا غير قلق من تجاوز الدنيا له، ومع ذلك يتصور أن استخدامه لبعض الأجهزة والألواح الرقمية كأدوات كافية لإطلاعه على دنيانا المتغيرة والمعقدة بالظواهر الجديدة وغير المألوفة، ولا يستوعب طبيعة عملية الانتقال من الفرد/الكائن البشرى إلى عمليات تشكل الكائن الرقمي، وغيرها من التحولات فى اللغة وفى مقاربة الواقع الموضوعى والواقع الرقمي، ومن الواقع إلى ما بعده، وهكذا .. هذا العقل اللاعقلى والاستثناءات محدودة هو الذى يدير بعض أجهزة الدولة، وهو الشائع لدى غالبُ النخب وشعاراتها الجوفاء، وعقل الكلام الساكت وفق التعبير السودانى الشائع -، ومن ثم يعاد إنتاج شعارات الوحدة الوطنية، والمسلمون والمسيحيون أخوة، بينما الواقع ينفجر بالتمييز الديني، وخطابات الكراهية الدينية والإنسانية والمذهبية والعنصرية وازاء المرأة... إلخ! خذ تجليات عقل اللاعقل وثرثرته اللغوية الركيكة حول الإرهاب ممن يتم وصفهم إعلاميًا بالخبراء، حيث لا معلومات ولا تحليل ولا معرفة إلا فيما يندر من استثناءات - ويعاد الكلام الفارغ والساكت بلا ملل، أو اعتراف من المتكلم بعدم المعرفة أو المتابعة أو التخصص.. ولا أحد يقف لهؤلاء ويقول كفى... كفى أرحمونا من لا معرفتكم القاسية التى تساهم فى إنتاج اللاوعي، وتشويه الرؤي، وضبابية التصور، وإشاعة الصخب واللغو، والاتهامات المرسلة والغموض الذى يهدف إلى عدم المساءلة عن الأخطاء، ومن ثم عدم مراجعة أساليب فى الفكر والعمل تقود إلى الفشل، وتحول دون مواجهات ناجحة للتحديات الصعبة التى تواجهنا. عقل اللاعقل متمركز حول ذاته، وحول شعارات مدح الذات القومية المصرية ومبالغاتها والارتكان إلى رمزيات الوجود الحضارى التاريخى الذى لم نساهم فى تراكماته، ونستعيده فى خطاب المديح الوطنى تعبيرًا عن عجزنا وتورم ذات جماعية مأزومة، ويعيش وعيها خارج تاريخ عصرنا... ارحمونا يرحمكم الله! لمزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح