فى تحول جوهرى لمجريات الأحداث فى ليبيا، دحر الجيش الوطنى بقيادة المشير خليفة حفتر ميليشيات «سرايا الدفاع عن بنغازي»، وأفشل مخطط جماعات الإسلام السياسى والقاعدة والمرتزقة من جنوب الصحراء، والدول التى تدعمهم وتحركهم. وجه ضربة موجعة لمساعى الاستحواذ على آبار وموانى تصدير النفط، العمود الفقرى للاقتصاد الليبى. استعاد الجيش - من خلال عملية «البرق الساحق» - السيطرة الكاملة على منطقة الهلال النفطى، بعد أسبوع واحد من انتزاعها منه، وكبد المليشيات خسائر فادحة، على نحو مفاجئ، يؤشر إلى تغير فى موازين القوى، يصح معه القول إن ما بعد «البرق الساحق» لن يكون كما قبلها..! ذئاب كثيرة تعوى على الأراضى الليبية، تسكب الزيت على النار، عطش مجنون للمزيد من دماء الأبرياء. الشره الكلاسيكى للنفوذ يؤجج الأطماع، النفط شهى وملعون، مخزونات هائلة من الذهب الأسود والغاز، 3ملايين برميل يوميا، على مرمى قدم من أسواق الاستهلاك الأوروبية، تسيل معها الغرائز وتشتعل الصراعات. الشعب الليبى يسدد فاتورة باهظة من وجوده وحاضره ومستقبله ومعه الشعوب المجاورة. العطب الليبى قديم والارتكاسات عميقة، الدولة هناك لم يمر عليها سوى قرن من الزمان، بدأت قبائل ومشيخات، ثم ثلاثة أقاليم، وحدها الاحتلال الإيطالى فيدراليا، صارت مملكة فجمهورية، ثم «جماهيرية عظمى». قبل أن تعاود التحلل مرة أخرى: بعد الثورة هدمت قوات الناتو بنية الدولة، فى طريقها للقضاء على الديكتاتور، تركوها أرضا يبابا، سلموها إلى المتطرفين، لتصبح بؤرة زلزالية، تهز ارتداداتها الحادة الشرق الأوسط حتى وسط أفريقيا. لمصر نصيب وافر من هذه التأثيرات العنيفة، تجد نفسها فى ورطة حقيقية، وهى التى تواجه الإرهاب على أرضها - لاسيما بسيناء - وليس سرا أن معظم الأسلحة التى تشهرها الجماعات المتطرفة، تسربت إلينا من ليبيا، إملاءات الجغرافيا تفرض التفاعل مع هذا الواقع المأزوم، لا مجال للتخاذل أو التردد، ألسنة اللهب بالجوار تنذر بإحراق البيت. من ثم تنبع أهمية دور القاهرة الحالى – مع عواصم إقليمية ودولية - بإشراف الفريق محمود حجازى رئيس أركان القوات المسلحة، بحثا عن حلول ناجعة لوقف نزيف الدم الليبى وإحلال الاستقرار، وجمع الفرقاء على كلمة سواء، حماية لوحدة الأرض وصونا لثروات الشعب الشقيق.. خاصة أن الموقف الروسى مازال غائما، ودولا أوروبية يعتريها شوق جارف للعودة جنوب المتوسط، الولاياتالمتحدة لا تمانع. منذ سنوات تعلن واشنطن الحرب على تنظيم «داعش» بالعراق وسوريا، وتتغافل عن ليبيا، تاركة أمثال قطر وتركيا وغيرهما يعيثون فسادا بأرض عمر المختار، ينشرون بذور الفوضى والخراب الإقليمي؛ ارتكازا على دعم تفرعات الإخوان والإسلام السياسى الجهادية، والحكومات «الكرتونية» فى طرابلس؛ لقد انكشف المستور وتحولت الظنون إلى حقائق، طائرات وسفن محملة بالأسلحة، تفرغ حمولتها، فتتسرب مع جيوش الظلام إلى مصر وتونس والجزائر، بعد أن تجعل التراب الليبي مقابر للأجساد الممزقة والرءوس المقطوعة، بينما يتبجح العالم بحظر السلاح على الجيش الليبى..! وحسنا فعل الرئيس السيسى، الصوت الأعلى فوق كل المنابر بلا كلل، عن ضرورة دعم «الجيوش الوطنية» فى ليبيا وسوريا والعراق، سبيلا لاستعادة الأمن والاستقرار. لاتخفى القاهرة مساندتها الجيش الليبى، وهو ما ندعو إلى تعزيزه وتقويته بشتى الوسائل، دون وجل. فى موازة الجهود الحثيثة لاستنبات السلام، بالتعاون مع بعض دول الجوار والقوى الدولية. لا دولة بالعالم تسبق مصر اليوم، فى العمل لإنجاز السلام والوحدة بليبيا، لأنها عمق استراتيجى لمصر، والأخيرة عمق استراتيجى لها، بالإضافة إلى الوشائج والمصالح الهائلة المتبادلة بين الشعبين، حال إنهاء النزاع والقضاء على الجماعات الإرهابية وكبح الدعم الخارجى لها، لانبالغ لو قلنا إن الاقتصاد المصرى سيجد فى الاستقرار الليبى حلا لأزماته. ولعل براعة الجيش الليبى فى إنجاز «البرق الساحق» تفرض «حقائق جديدة»، مثل تعديل «اتفاق الصخيرات» وإسقاط العناصر الإخوانية المعرقلة للتوافق من «المجلس الرئاسى، وقصر تبعية المصرف المركزى ومؤسسة النفط للشرعية، ممثلة بمجلس النواب، وغيرها من الخطوات وصولا للمصالحة الشاملة. لقد أتيح لىّ فى الماضى زيارة ليبيا، وأدرك طيبة شعبها وعظمته، لكن الكوابيس لم تبلغ منتهاها بعد، والضرورة تحتم اليقظة والإقدام. «المحسوب»، لتسريع الحسم والوصول إلى النتيجة المبتغاة لمصلحة الليبيين أولا وشعوب المنطقة ثانيا، ولا بديل عن الاستعداد لأسوأ الاحتمالات والقدرة على سداد الثمن، ثم الانتقال من قوة الحق إلى قوة الردع، بوصفها الحكم الفصل فى صراعات الشعوب. [email protected] لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبوالحسن;