عَقَد منتدى دلفى الاقتصادى -وهوشبيه لمؤتمر دافوس-اجتماعه السنوى بمدينة دلفى اليونانية موطن الإله الإغريقى أبوللو والمعروف بحكمته فى البحث عن الحقيقة. وانطلاقاً من هذا الإلهام اليونانى القديم للمعرفة والحكمة، اجتمع مئات من المثقفين والأكاديميين وممثلى الحكومة فى هذه الساحة التاريخية لمناقشة مستقبل أوروبا والحوار حول مواجهة احتمالية تفككها. فأوروبا اليوم انقلبت رأساً على عقب لسبق احتضانها المباشر وغير المشروط للعولمة بما سببته من صعود النزعة الشعبوية وتعريض وحدة أوروبا بأسرها للخلل ومخاوف انتقال عدوى ترامب إليها. وفى هذا السياق، جاء اهتمام منظمى دلفى بتخصيص ندوة عن التطرف الدينى والإرهاب فى منطقة الشرق الأوسط وقاموا بدعوتى للحديث عن دور مصر واستقرارها وأهميته للمنطقة ولأمن أوروبا. ولقد زادنى فخراً أن أكون الممثل المصرى الوحيد عن المنطقة فى هذا الاجتماع مما رسخ إيمانى بما يمكن أن يحققه الدور المصرى بعد فترة من غيابه. واجتهدت فى مداخلتى إلى توضيح أن استقرار وأمن مصر من استقرار وأمن المنطقة ورهان مكسبه مضمون.بيد أننى قرنت ذلك بأهمية التعاون والتكاتف المصرى الأوروبى وأن ذلك مرهون بمدى استعداد أوروبا وتوافر الرغبة السياسية لديها فى استرجاع دورها فى المنطقة، وهو الأمر الذى يشكل تحدياً ليس بأقل أهمية عن استقرار مصر. فطالما عُرفت سياسة أوروبا تجاه الشرق الأوسط بالتوازن والعقلانية، على عكس سياسة الولاياتالمتحدة التى تتغير على مدى الإدارات المتلاحقة. كما تستطيع أوروبا تحقيق الموازنة فى المنافسة بين الولاياتالمتحدة وروسيا فى منطقة الشرق الأوسط والتى أضرت فى أغلب الأحيان بمصلحة المنطقة واستقرارها. ولم أرد أن تفوتنى فرصة تذكير الحاضرين بجذور عدم الاستقرار فى منطقتنا، وعلى عكس ما يظنه البعض فالربيع العربى ليس هو المتهم الرئيسى بزعزعة الاستقرار ولكن ترجع أصوله فى المنطقة إلى أوائل ثمانينيات القرن الماضى حين بدأ الرئيس الأمريكى رونالد ريجان بمغازلة حركة طالبان لمحاربة الاتحاد السوفيتى فى أفغانستان. وبناءً على ذلك نهض المسلمون لنجدة إخوانهم فى العقيدة حيث تبنوا مهمة القضاء على الشيوعية والانتصار على ماسموه - بإمبراطورية الشر-. وكانت تلك هى بداية النهاية. وبالحديث عن أهمية الاستقرار والأمن المصرى وجب الاعتراف بفقدان مصر جزءا كبيرا من وزنها ومكانتها فى المنطقة بعد 2011. ومع ذلك فقد نأت بنفسها عن الآثار السلبية التابعة لما يعرف بالربيع العربي. ولم تكتف مصر بحماية نفسها ضد التفكك والحرب الأهلية فحسب ولكنهاوقفت أيضاً بحزم ضد إدارة أوباما والعديد من الدول الأوروبية لدعمهاغير المبرر الإخوان المسلمين فى مصر بحجة أنه تم انتخابهم ديمقراطياً. ولقد اعترف المصريون بارتكابهم خطأً فادحاً فى انتخاب جماعة الاخوان، مما ممكنهم من النجاح فى الانقلاب عليهم بعد عامٍ واحدٍ من وصولهم للسلطة. وجل من لا يخطئ.. وتساءلت ما الذى نتوقعه من أوروبا، موضحة أنه على أوروبا التعامل مع ما يسمى متلازمة "المجتمع الموازي" حيث أصبح الجيل الثانى من المهاجرين أكثر عدوانيةً وتشدداً فى كفاحه من أجل الهوية. فبالرغم من أن هذا الجيل أفضل حالاً من آبائهم فإنه يرفض المجتمعات الحاضنة له والتى نشأ فيها وأصبح أبناء الجيل الثانى أرضاً خصبةً لتجنيد الإسلاميين. وعلى أوروبا أن تختار أحد المسارين: إما اتباع مسارٍ أكثر راديكالية مماثلاً لمسار الإدارة الأمريكية الجديدة والذى من شأنه أن يشعل مزيدا من الكراهية، أو إبداء الاهتمام بمشكلات المنطقة والعودة إلى سابق دورها باعتبارها راعية لسيادة القانون والشرعية الدولية. ويبقى القرار فى يد الشعب الأوروبي. وهناك حاجة ماسة للتعاون المصرى الأوروبى والعمل معاً نحو شرق أوسط أكثر استقراراً. وفيما يتعلق بالصراع الفلسطينى الإسرائيلي. فهناك مصلحة مشتركة ومشروعة بين مصر وأوروبا للعمل معاً من أجل تقنين أسس عملية السلام، حفاظاً على تلك الأسس وتثبيتها ضد تقلبات الإدارات الأمريكية المتتالية والوقوف ضد الدعم الأمريكى الأعمى لإسرائيل،وإن كان معروفاً مسبقاً أن هذا الخيار سيواجه بالمعارضة الشديدة من قبل الولاياتالمتحدة وإسرائيل.ويتعين على مصر وأوروبا والدول العربية الدعوة إلى المبادئ المعروفة بحل الدولتين والمدافعة عنها كما يجب بدء حوار عقلانى ومنطقى مع الرئيس ترامب إذا كان الأخير صادقاً فى مساعيه للتوصل إلى حل. ولا شك أن زيارة المستشارة أنجيلا ميركل إلى مصر من أجل التنسيق قبل زيارتها المتوقعة إلى أمريكا تأتى فى هذا النطاق. فإذا استمر الصراع العربى الإسرائيلى دون حلٍ قاطع لن يتم تحرير المنطقة من براثن الإرهاب حتى وإن افترضنا –نظريًا- تسوية الصراعات الأخرى فى المنطقة. وفيما يتعلق بالأزمة الليبية، فإنه لمن المهم أن تعطى مصر وأوروبا الأولوية للعمل معاً من أجل استقرار ليبيا. ولم تدخر مصر جهداً ليس فقط فى العمل مع مختلف الفصائل الليبية بل أيضاًفى التعاون مع دول الجوار مثل الجزائر وتونس سعياً وراء حل سلمي. وتعتبر خريطة الطريق التى توسطت فيها مصر بين فايز السراج رئيس الحكومة الوطنية الليبى وحفتر القائد العام للقوات المسلحة خطوة للأمام فى الاتجاه الصحيح الذى من شأنه أن يقودنا إلى المصالحة المنشودة وإقامة الانتخابات فى خلال عام. أما بالنسبة للأزمة السورية والتى تحدد ملامح الهوية فى منطقة الشرق الأوسط فإن الجهود العربية لها دور أساسى ويجب أن تحظى بتأييد ودعم أوروبى حتى لا يُترك المجال مفتوحاً لإيران وتركيا وروسيا لاتخاذ القرار بشأن سوريا. وهناك مصلحة مشتركة لمصر وأوروبا فى الحفاظ على وحدة الأراضى السورية وذلك لإرساء قواعد حل سلمى شامل للأزمة. فبينما تعطى أوروبا الأولوية العليا لاحتواء أزمة اللاجئين، فإن أكثر ما يشغل الجانب المصرى هو الحفاظ على الهوية العربية للمنطقة وعدم ترك هذه المسألة فى أيدى القوى الخارجية التى تتحرك وفقاً لمصالحها الخاصة. وأخيرًا وليس آخرًا، لا تزال منطقة الشرق الأوسط تشكل أولوية متقدمة لسياسة الاتحاد الأوروبى الخارجية على الرغم من كثرة المشكلات التى يواجهها. وينبغى على أوروبا الانخراط فى مشكلات المنطقة والعمل على التوصل إلى حلولٍ عملية لتخطيها، وتعتبر قوة وازدهار واستقرار مصر عنصراًجوهرياً لمنطقة آمنة ومزدهرة والتعاون بين مصر وأوروبا والولاياتالمتحدة هو مفتاح مواجهة تحديات المنطقة السياسية والاقتصادية والأمنية. أستاذ بالجامعة الأمريكية لمزيد من مقالات د . ماجدة شاهين;