بصورة تلقائية.. يربط البشر بين الأماكن وسكانها، وهكذا كلما جاء ذكر «محفوظ» تذكرنا قاهرة المعز،وعندما ينطق أحدهم باسم «ماركيز» نتذكر جذوره فى كولومبيا . والأمر نفسه مع البرتغال التى لا يكتمل الحديث عنها إلا بابنها جوزيه ساراماجو صاحب المزاج الساخر السوداوى الذى كان صحفيًا وكاتبًا، وثوريًا محبطًا وساخرًا من عولمة جشعة، ومتعبًا من أجل إنسانية مهانة رثاها فى كتاباته التى أبعدته عن الوطن الذى أخضعه لرقابة السلطة التى حذفت يومًا إحدى رواياته من القائمة القصيرة لإحدى الجوائز باعتبارها مسيئة دينيا، فانتقل للعيش فى منفاه الاختيارى بإحدى الجزر الأسبانية حيث ودع الحياة فى سن السابعة والثمانين بعد إصابته باللوكيميا «16 نوفمبر 1922 - 18 يونيو 2010»، وعلى الرغم من سابق الخلاف لم تنس البرتغال ابنها حيث تعاونت مع مؤسسة ساراماجو برعاية أرملته «بيلار» لافتتاح متحف باسمه فى العاصمة لشبونة أو لسبوا كما ينطقها أهلها، ليكون المتحف الثانى إلى جانب متحف ابنها الشاعر البرتغالى الشهير «فريناندو بيسوا»، وإن كان ساراماجو هو الأشهر عالميًا باعتباره الحائز الأول فى ثقافته على جائزة نوبل فى 1998، وباعتباره الكاتب المثير للجدل بسبب رفضه الواضح لتحكم المؤسسات الدينية، وعدائه المعلن للأنظمة الاستعمارية الرأسمالية وعلى رأسها الولاياتالمتحدة وإسرائيل والبنك الدولي. «لم يكن لدى ببساطة شئ أقوله، وعندما لا يجد المرء شيئًا يقوله فالأفضل له الصمت» عبارة من مقدمة حصار لشبونة كتبها ساراماجو ولم يتبعها أبدا، كما كان حريصا على أن يعبر عن أفكاره فى حكاياته التى اصطدمت بالسياسيين التقليديين ورعاة الكنيسة المحافظين، وخصوصا مع تدين أهل بلده الواضح فى سلوكياتهم اليومية حيث يستلزم تناول الخبز والنبيذ رمزا لجسد ودم المسيح لأول مرة لطفل أو طفلة احتفالًا مهيبًا يجتمع فيه افراد الأسرة للاحتفال فى حفل أو عشاء يستلزم التحضر له أسابيع، كما أن ذهاب أطفال الكشافة من البنين والبنات بعد معسكرات السبت الكشفية للتبتل وحضور القداس واجب مقدس يحرص عليه قادتهم الذين ينحنون فى جلال على ركبة واحدة فور دخولهم إحدى الكنائس أوالكاتدرائيات الضخمة التى تحفل بها مدن البرتغال. وعلى الرغم مما تعرض له ساراماجو من المنع والتقييد إلا أنه لم يتراجع قط عن قناعاته حتى عاد ثانية إلى البرتغال ميتًا ليتم حرق جثمانه ودفن رماد رفاته تحت شجرة زيتون عتيقة تتوسط الساحة أمام المؤسسة التى تحمل اسمه والتى تشغل أحد البيوت الأثرية المطلة على نهر دورو وهو البيت المعروف فى حى ألفاما باسم كازا دوس بيكوس Casa dos Bicos. «لا أعرف ما الخطوات التى سأمشيها لا أعرف ما نوع الحقيقة التى أبحث عنها, أعرف فقط أن عدم معرفتها أمر لا يحتمل بالنسبة لي» يقدم المتحف أو البيت الأثرى الذى يتجاوز عمره 400 عام، ويتميز بواجهة فنية لافتة، والذى تم افتتاحه بعد عامين من رحيل ساراماجو، مصادفة تربط بين التاريخ والأدب باستخدام أرضية شفافة تكشف فى السفل تحت أقدام الزائرين عن موقع للحفريات يمزج بين تراث البرتغال ونجمها المعاصر، كما يحمل الدرج الذى يربط بين طوابق المبنى عبارات لساراماجو بالبرتغالية من أعماله تلخص فلسفته حول الحياة والموت والمال والحب والسلطة. كما يضم المتحف مكتبة تحتوى على مؤلفات الكاتب والنسخ المختلفة من الطبعات فى 27 لغة من بينها العربية التى يعرف قراؤها رواياته ومنها: «عام موت ريكاردو» 1984، و«الإنجيل كما يرويه المسيح» 1992، و«العمى» 1995، فضلًا عن تسجيلات صوتية ومصورة وصور نادرة ولوحات منحوتات تخص الكاتب، ومركز للبحوث والدراسات الخاصة بأعماله ونسخ من مخطوطات أعماله وأجنداته اليومية التى كان يسجل بها بدقة مواعيده وأفكاره وملاحظاته، ويحتوى المبنى أيضاً على مكتبه وكرسيه وآلته الكاتبة التى كان يستعين بها لكتابة أعماله الأدبية الأولى، كما يضم الطابق الأخير مكتبة لبيع المنتجات المختلفة من هدايا تذكارية أو مطبوعات من تأليف ساراماجو أو عنه. «ما أصعب أن يكون المرء مبصرا فى مجتمع أعمى» فى متحفه توقفت طويلًا أمام صورة احتلت حائطا بأكمله، داكنة فى خلفيتها التى لا يظهر فيها شيء إلا سواد عظيم يتوقف فى جلال عند حدوده جسد العجوز ساراماجو الملتحف بضوء شفيف وكله شجن يكشف عن عشرات الكتب التى التفت حول وسطه وتم ضمها بأسلاك لتبقى مكانها حول الجسد الواقف فى تحد واهن حول جسد الرجل النحيل. كان ثمة رجل وامرأة يلتقطان بعض الصور دون فلاش ويبتسمان للمعنى الذى طرحته الصورة برمزية آسرة حيث يرى ساراماجو نفسه –أو رأته المصورة- مدججا بالأفكار التى تحيط به ولعله فى نشره الدائم لعشرات الكتب والمقالات إنما يفجرها فى الجو ليقضى على أفكار فاسدة لا يرضاها. كان هذا هو المعنى الذى اختاره ساراماجو لصورة مصنوعة باحترافية كانتحارى يهز المجتمع النائم المسالم بانفجارات أفكاره المثيرة دوما للتفكير ومن ثم الجدل.