من الحرب على تنظيم داعش في الموصل، إلى الاقتتال الدائر في العاصمة الليبية طرابلس، وصولا إلى مفاوضات سورية لا يرجىمنها دوليا سوى رفع العتب، لم يعد ممكنا العثور على أي بصمة قطرية تذكر. ما تعيشه المنطقة من صراعات لا يبدو أن لها آخر، هو تجسيد واقعي لفلسفة قيادة «الدول العرجاء». الإعتماد على ساق واحدة في السير وسط هذه الألغام غير ممكن إلا في خيال العاجزين. الساق الواحدة في الحالة القطرية هي جماعات الإسلام السياسي. هذه دولة متضخمة تتحكم في استراتيجيتها الخارجية عقلية جديدة ومتهورة نوعا ما. في قطر مثلا كان ثمة اعتقاد بأن تنظيم «الإخوان المسلمين» هو القنبلة النووية الحقيقية في العالم الإسلامي. من يمتلك هذا السلاح يتحكم تلقائيا بقوة الردع الكبرى التي تخيف أنظمة الحكم التقليدية، وتربك الغرب الذي لا يملك استراتيجية واضحة إلى الآن لكيفية التعامل مع الإسلام السياسي في مجمله. الإخوان المسلمون في الغرب هم جمرة اللهب التي يريد كل من تقع في يده أن يلقي بها على الآخرين. لا سياسي غربيا عرف من قبل كيف يجبر جالية مسلمة على الاعتدال، وفي الوقت نفسه يتهاون مع الإسلاميين، الذين يهيمنون عمليا عليها. الإخوان كانوا دائما في معادلة الغرب «الفيل» الذي يملأ الغرفة. هذا في الغرب، لكن ماذا عن الشرق الأوسط؟ تقوية هذه الجماعات داخل بلدان المنطقة وبناء جسر مع الإسلاميين في الخارج كان سيشكل واقعا جديدا تماما. عجز الحكومات الغربية عن مواجهة أيديولوجيا التشدد كان سينتقل تدريجيا إلى العالم العربي، لكن بفاعلية أكبر. وقفت المشكلة في الغرب عند حد «الفيل الذي يملأ الغرفة». مشكلة كهذه في المنطقة تطيح أنظمة بأكملها. هذه هي الرؤية التي كانت تعتمد عليها قطر، لكنها تمادت فيها دون أن تدري. ليس صحيحا أن الدولة هناك تكتفي بدعم الإسلاميين والجهاديين والتكفيريين ماديا وعسكريا فقط. الأمر تحول إلى ارتباط عضوي لم يعد سهلا حله في يوم وليلة. في قطر اليوم تجد الإسلاميين يتحكمون في دوائر حساسة في الدولة. الشئون الدينية والمساجد والفتوى صارت حكرا على المتشددين. القرضاوي مثلا هو الإمام الأكبر في قطر، وعقيدة الإخوان المسلمين تكاد تصبح دستورا للدولة. الإعلام هو سلاح قطر الأقوى على الإطلاق. دولة صغيرة كهذه لا تملك لا قوة ناعمة ولا خشنة في حاجة دائما إلى تأثير خارجي من أي نوع. لم يكن هناك أي شيء يمكن ليدها أن تصل إليه سوى الإعلام. لم يعد من المنطقي تصديق أن أجندة قناة الجزيرة الإخبارية تنزل من مستويات أقل من القمة في قطر. لم يعد للقناة هم سوى تقديم قادة تنظيم القاعدة في سوريا ليل نهار، بهدف إعادة تأهيلهم. هذه العقيدة لا تنشأكنتيجة لتراكم الدعم المالي فقط. المال لا يصنع العقائد. الفخ الذي سقطت فيه قطر هو عدم انتباهها لوضع البنزين على مسافة كافية بعيدا عن النار. البنزين هو المال القطري، والنار هي روافده الفكرية المتشددة. امتزج الجانبان وصارا كيانا واحدا. اليوم كلما ازداد توهج الإسلاميين في المنطقة اتسع نفوذ قطر وتضخم دورها الإقليمي. العكس يحصل كلما قطعت ذراع للجهاديين أو الإخوان المسلمين في مكان ما. بعد 30 يونيو 2013 في مصر نزل الإخوان تحت الأرض، وبدأ مشروع الإسلاميين في التراجع. سياسيا وإقليميا، نزلت قطر أيضا تحت الأرض، ولم تعد قادرة على تبني أي مشروع آخر. في بلد يعتمد كليا على الاحتياطات النقدية، حول طول مدة تراجع أسعار النفط قطر من دولة فعل إلى دولة لا تستطيع الفعل ولا رد الفعل. كلما ازدادت الأموال في الخزينة، على صوت قطر، وكلما تراجعت حصيلة النفط والغاز، خفت الصوت الذي صار الآن قريبا من السكوت. لكن ليس هذا هو المشكلة الوحيدة في وجه القطريين. في واشنطن صار لدينا آخيرا رئيس يقول كفى. هذا الرجل العنصري والشعبوي الساذج له ميزة وحيدة هو أنه لا يتهاون مع تحويل الدين إلى لعبة في يد الصغار، ولا إلى قنابل نووية في يد الكبار. أدرك القطريون أن الإسلاميين يخسرون الأرض. في حالات مثل هذه، لا يكون أمام الدول الصغيرة سوى الاختباء خلف آخرين أكبر منها. بعض دول الخليج الملاذ المتبقي لقطر. دعك من التحركات التي تأخذ طابعا يتخطى حدود الإقليم العربي كي يصبح نواة لمظلة إسلامية أوسع. كل هذا كلام للإستهلاك السياسي والدبلوماسي هدفه في النهاية ضم تركيا إلى تصور سني محدود. مشكلة هذا التصور أن لا شيء يحكمه سوى التناقضات. نصفه يحلم بمواجهة إيران، والنصف الآخر يفكر ليل نهار في مخرج للإسلاميين. الجانبان لا يملكان مشروعا حقيقيا قادرا على تحقيق أحلام النصف الأول، ولا إيجاد مخرج للنصف الثاني. في النهاية يعرف القطريون أنه لا يمكنهم الوثوق في الأتراك أكثر من اللازم. في نظر الرئيس رجب طيب أردوغان مصلحة الآخرين هي مكملة لمصلحته، وليس العكس. اتفاقيات الدفاع المشترك بين الدوحة وأنقرة، والقواعد العسكرية التركية على الأراضي القطرية وغيرها لا تعني شيئا. وقت الجد لن يضع اردوغان نفسه في مواجة حقيقية مع الغرب، ولن يغامر بمستقبله السياسي من أجل القطريين ولا غير القطريين. كما نجح الغرب في تحييد المشروع النووي الإيراني، جاء أحدهم ليدمر «القنبلة النووية» القطرية. استعادة الإسلاميين النفوذ الإقليمي مرة أخرى سيحتاج وقتا طويلا، لن تقضيه قطر على الأرجح سوى تحت الأرض. لمزيد من مقالات أحمد أبودوح;