أوروبا تتحول إلى قارة متخمة بالعقد. فرنساوألمانيا هما مركزان لهذه العقد. البلدان لا يستطيعان بعد قبول فكرة أن البريطانيين قرروا التخلى عن تجربة الاتحاد. هذه خطوة تراكم مزيدا من الشكوك على عقد تاريخية لم تذب بعد. هاجس الأوروبيين هو أن البريطانيين انضموا إلى الاتحاد منذ اليوم الأول من أجل إبقائه اتحادا، لا شيء أكثر من ذلك. العالم الغربى المتحدث باللغة الإنجليزية لم يرد يوما لأوروبا أن تتحول إلى دولة واحدة قوية. الفرنسيون يتحملون العبء الأكبر من الشعور بالغبن تجاه البريطانيين. الثقافة والفكر والفن والموضة لطالما كان مصدرها فرنسا منذ ما قبل عصور الحداثة. الثورة الصناعية التى انطلقت من فرنسا هى نقطة تحول اقتصادى واجتماعى فى التاريخ الإنسانى بأثره. قبل ذلك كانت فرنسا هى القطب الثانى عسكريا واقتصاديا، حتى فيما بعد معركة «ووترلو» التى أنهت إمبراطورية لنابليون بونابرت. بريطانيا لم تكن مصدرا لأى من هذا كله. الإمبراطورية البريطانية ظلت مصدرا للتوسع الخشن والاعتماد على القوة العسكرية لتوسيع النفوذ العسكرى والتجاري. الطموح البريطانى توقف لقرون طويلة على التحكم فى الطرق الملاحية والدول المركزية التى يمكن من خلالها إدارة طرق التجارة. النخب البريطانية ظلت غائبة، وانحصر الإنتاج الثقافى البريطانى فى شكل نقاط مضيئة لكنها متباعدة. كل هذا التراكم الحضارى والثقافى والتنافس على النفوذ السياسى فى كل زاوية من العالم جعل الفرنسيين يشعرون دائما بالفوقية. كل الأمم الأخرى كانت تتطلع إلى باريس. الألمان والروس والإيطاليون والعرب والآسيويون وحتى الأفارقة كانوا يحلمون حتى بمجرد الاقتراب من إشعاع التنوير الفرنسي. الأمريكيون أنفسهم كانوا فى البداية امتدادا لبريطانيا، مع ذلك فرنسا كانت هى المركز الحضارى الأول فى أذهانهم. حتى فى بريطانيا، ظل التحدث بالفرنسية إشارة إلى أصول أرستقراطية عريقة. هذا الوضع ظل قائما حتى فى الوقت الذى كانت فيه بريطانيا تحكم نصف العالم. الدول التى كانت جزءا من التاج البريطانى لم تكن مقتنعة بالإنتاج الفكرى والثقافى للمحتل. لم تترك بريطانيا أثرا يذكر على الهوية أو الشخصية أو اللغة فى دول كانت تهيمن عليها بالكامل. فرنسا هى من فعلت ذلك، بقصد أو من دون قصد. اختراع الطائرة وتدخل الولاياتالمتحدة فى الحرب العالمية الثانية شكلا مرحلة حسم التنافس التاريخي. قدرة الجيش الأمريكى على عبور المحيط الأطلسى وبناء وجود دائم فى أوروبا أنهى معركة الصراع على النفوذ لصالح الأنجلوساكسون إلى الأبد. إلى اليوم لا يستطيع الفرنسيون التخلص من عقد الهزيمة والخضوع للاحتلال فى الحرب العالمية الثانية. العقدة هنا غير موجهة ضد ألمانيا النازية التى كسرت الشخصية الفرنسية بشكل مهين. العقدة الأكبر موجهة إلى بريطانياوالولاياتالمتحدة رغم أنهما انقذا فرنسا من براثن النازية. مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية شكلت صعود الإمبراطورية الأنجلوساكسونية وتراجع الفرنكفون بشكل غير مسبوق. الفرنسيون اليوم مازالوا يشعرون بقيمة فرنسا. كثير من الأوروبيين يشاركونهم نفس المشاعر، لكن من باب التعاطف ليس أكثر. فى لحظات التحولات الكبرى وصعود قوى جديدة عادة ما تجد الهويات التقليدية القديمة نفسها غير قادرة على الفعل. اللحظة تضع الهوية فى اختبار تاريخي. بعضها يقبل بدور ثانوي، وتعوض نفسها بنوستالجيا لا تقدم ولا تؤخر، وثمة هويات أخرى تنهض أقوى من ذى قبل. هكذا يشعر المصريون مثلا هذه الأيام، لكن بطريقة مختلفة. هذا بلد غير عربى فى الأساس، لكنه اختار القبول بالهوية والثقافة العربيتين، وتمكن مع الوقت من تمصيرهما. النتيجة كانت صعود قوة تمكنت من تحقيق ما لم يحققه غيرها فى العالم العربي، وهو الاستمرارية فى موقع القيادة لفترات طويلة. اليوم يستطيع معظم العرب فهم اللهجة المصرية المحلية، دون أن يكون المصرى مضطرا إلى فهم كل اللهجات الأخري. السينما والروايات والقصص المصرية شكلت وعى أجيال عربية كاملة. الناس من العراق إلى المغرب كانت تنتظر المجلات والصحف المصرية، وفيلم السهرة فى التليفزيون حتى وقت قريب. على غرار الطائرات، كان اكتشاف النفط هو نقطة التحول فى الشرق الأوسط. تراكم عوائد النفط أسهم فى صعود دول خليجية تتطلع إلى تسلم قيادة المنطقة، بأجندات مغايرة. كل ما كان مستقرا فى الوعى العربى صار بعد تراكم الثروة النفطية محل مراجعة. اليوم صارت مدينة دبى مثلا هى الحاضرة العربية الأولي. الحواضر التقليدية تبدو على الجهة المقابلة بعيدة وتتصرف بعقل غائم. بغداد ودمشق لم تعودا موجودتين على الخريطة، والقاهرة تبدو تائهة، وإن كانت متماسكة بعض الشيء. الفرق بين العقدة الفرنسية والعقدة المصرية، هى أن الشخصية الفرنسية تصارع هويات متراكمة وقوية من حولها، والشخصية المصرية تقف وسط هويات مازالت لم تكتمل بعد. الدولة العربية هى كيان حديث لم يكن موجودا قبل القرن العشرين. لم تحظ هذه الدولة بوقت كاف كى تشكل وعيا مستقلا وتتمكن من الانتقال إلى مرحلة الهوية. الشخصية العربية ليست مركبة، وأبسط كثيرا من اعتبارها شخصية كاملة بعد. موضة الفضائيات كشفت اهتزاز الشخصية العربية أمام أى رياح طارئة. أى مقبلات ثقافية غربية اليوم قادرة على إرسال العالم العربى يمينا ويسارا دون أدنى مقاومة. منطقة الشرق الأوسط لا تزال فى حاجة إلى وقت كى يستقر الغبار وتظهر ملامح شخصيتها. العكس تماما فى أوروبا. الاهتزاز هناك ينتج صراعات فورا. آخر ما يتمناه الأوروبيون هو العودة إلى أيام كانت فيها قارتهم ساحة المعارك فى العالم. انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبى سيعيد صراع الهويات مرة أخرى فى أوروبا. كما يحاول المجتمع المصرى العودة إلى رصيده الثقافى والفكرى كى يضبط المنطقة المشتعلة، سيفعل الفرنسيون ومعهم الألمان الشيء نفسه. لكن على أوروبا أن تتخلص من عقدها أولا. لمزيد من مقالات أحمد أبودوح