اتفاق وقف إطلاق النار الذى تم التوصل إليه فى سوريا كان اتفاقا أيضا على رسم حدود القوة الجديدة بين موسكووواشنطن فى المنطقة. بوتين تعلم الدرس من سقوط الاتحاد السوفييتى جيدا. بعد تحسس الخطى وجس النبض أدركت روسيا أن الولاياتالمتحدة تحت إدارة أوباما لا ترغب فى أى مواجهة. أخذ بوتين فى الدفع إلى الأمام خطوة خطوة إلى أن وصل إلى حافة التدخل عسكريا فى سوريا. عندما حانت اللحظة الحاسمة لم يتردد. اليوم تجنى روسيا مكاسب كل ما سبق هذه المرحلة خلقت نفسية جديدة بين الروس. منذ انهيار الاتحاد السوفييتى ظل الشعور بالإنهزام والتراجع يشكل حساسية ساخنة طوال الوقت فى نفوس المسئولين الروس تجاه الغرب. الانتصارات الأخيرة التى حققها بوتين على الغرب تمثل بالنسبة للروس خروجا من سجن معتم طال بقاؤهم خلف قضبانه. المسألة كلها تلخصت بالنسبة لبوتين فى حدود مباراة شخصية لإحراز النقاط فى مواجهة أوباما. ما نراه نحن عودة لتوازن القوى يذكرنا بأيام «الثنائية القطبية»، يراه الروس هزيمة ساحقة للغرب. الفلسفة الروسية تكمن فى أن بوتين لم يعد يناكف الولاياتالمتحدة لاستعادة بعض امتيازات روسيا فى البلدان التى تشكل امتدادا تاريخيا لها فقط. انقلبت المعادلة، وصارت روسيا مكان الولاياتالمتحدة والعكس صحيح. الاتفاق على وقف إطلاق النار فى سوريا هو قمة جبل الجليد لحجم النفوذ الروسى الآخذ فى التشكل خصوصا فى منطقة الشرق الأوسط. خلف هذا الاتفاق هناك تاريخ تطبخ أحداثه على نار هادئة. انسحاب الأمريكيين من المنطقة هو إعادة متعجلة لعملية تسليم وتسلم القيادة فى المنطقة بين الولاياتالمتحدةوبريطانيا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وقتها كانت بريطانيا مجبرة على التسليم بأنها لم تعد قادرة على الوفاء بالتزاماتها «الإمبراطورية» تجاه دول الشرق الأوسط، خصوصا حماية منابع النفط وحركة الملاحة فى قناة السويس. الحرب الباردة بين الأمريكيين والسوفييت، التى حددت أبعاد النظام العالمى وقتها انتهت فى المنطقة قبل أوان انتهائها فى بقية العالم. توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979 كان واقعيا، هزيمة مدوية للإتحاد السوفييتى الذى كان عليه الانسحاب من الشرق الأوسط بأثره. الوضع اختلف كثيرا اليوم. عندما تراجع عن اسقاط نظام الأسد بالقوة بعد اتهامه بضرب غوطة دمشق بالسلاح الكيماوى فى أغسطس 2013، كان أوباما يضع حدا لوظيفة الولاياتالمتحدة التى تشبه «الفتوة» فى حوارى القاهرة أيام زمان. لم يضع بوتين الفرصة بعد أن فهم أن الوقت قد حان للإنقضاض على ارث واشنطن فى المنطقة. هذا المشهد يلخص محنة الشرق الأوسط المقبلة. صرنا أمام حرب باردة لكن بأدوات مختلفة. الطائرة بى 52 التى شكلت رعبا نوويا خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، والصاروخ العابر للقارات، وطائرات التجسس التى تطير على ارتفاعات شاهقة وحرب الجواسيس لم تعد أسلحة يمكن التعويل عليها فى عصر صراع الأقمار الصناعية ومواقع التواصل الإجتماعى والحروب الإلكترونية. خلال الحقبة السوفيتية كان على الشرق الأوسط أن ينتظر حسم مصيره طوال 35 عاما انتهت بانتصار الولاياتالمتحدة. عملية تبدل المواقع واستلام موسكو القيادة لم تستغرق كلها أكثر من 35 شهرا. الروس دخلوا إلى المنطقة من أقصر الطرق. طريقة التفكير هناك بسيطة للغاية: إذا كان قرب أمريكا من إيران وابتعادها عن الخليج تسبب فى تراجع نفوذها سريعا فى الشرق الأوسط، إذن على روسيا أن تقترب من الخليج، وتحاصر نفوذ إيران. الاتفاق فى سوريا هو الدرس الذى يحمل كل أبعاد الإستراتيجية الروسية الجديدة. الحكاية كلها تتلخص فى أن روسيا صارت ضامنة للإتفاق السوري، وقدمت أوراق اعتمادها كضامنة أيضا لضبط تحركات إيران فى المنطقة. الخليج لا يريد أكثر من «فتوة» آخر لديه القدرة على تحجيم نزق إيران وتهور حكامها. المنطقة تشبه اليوم شقة تناثرت فيها قطع الأثاث فى كل مكان وتساقط الطلاء من على الحوائط وتآكل السقف وبدأت المياه تتسرب من أركانه. أصحاب البيت لا يملكون ترميمه أو إعادته إلى أبسط صور الترتيب التى كان عليها فى السابق. كل ما صاروا يطمحون إليه هو أن يأتى شخص يساعدهم على ترتيب البيت وإعادة الإستقرار له. روسيا تقدم نفسها باعتبارها قوة عاقلة تريد وضع حد للفوضى التى ضربت المنطقة منذ اندلاع ما يعرف ب «الربيع العربي». الولاياتالمتحدة هى الصورة المقابلة للاستقرار فى ذهن عرب كثيرين. ما يحدث فى صورة المنطقة الكبيرة يجرى بحجم أصغر فى سوريا. حزب الله والميليشيات الشيعية العراقية وقوات الحرس الثورى هى رمز للإنفلات والعنجهية فى المعركة. الضبط والربط اللذان بات يتسم بهما المعسكر الداعم للرئيس السورى بشار الأسد منذ دخول روسيا إلى اللعبة منحاها شرعية سياسية مطلقة. تركيا قامت بالوظيفة نفسها فى معسكر المعارضة، لكن على طريقة بوتين. اليوم هناك أخيرا فى سوريا من تجلس معه على الطاولة وتتحدث إليه بعقلانية عن مستقبل سوريا.التشنج الذى كان يهيمن على عقلية الطرفين قبل ذلك لم يعد موجودا. نضج بوتين كزعيم سينعكس بالتدريج على مجريات الأمور فى المنطقة. انسحاب واشنطن ترك فراغا مليئا بالفوضى. موسكو ستملأ هذا الفراغ بالنظام والانضباط مرة أخرى. لمزيد من مقالات أحمد أبودوح