يقول الفنان الفرنسي جوجان: «إن وجودنا ما هو إلا آثار أقدام فوق الرمال، خطي حائرة فوق الجليد، وميض خاطف سرعان ما ينطفئ فوق محيط مظلم حالك السواد، أن مجهولاً قد عاش دون أن يكون لوجوده معني، وقد تألم ثم لم يلبث أن هوي إلي قاع الفناء. فلم تبق منه سوي حفنة صغيرة من الأملاح المعدنية وقبراً يحمل اسماً. قل لي بربك لماذا وجد ذاك أو لما وجدت أنا وليس آخر، هذا مع الأسف الشديد ليس له جواب عند حكماء هذا العالم فإنهم لا يملكون سوي الصمت والصمت المطبق العميق». وهذا الفنان قد حاول الانتحار بعد أن رسم مجموعة لوحات اسمها «من أين أتينا؟»، «ماذا نحن؟»، «إلي أين نحن ذاهبون؟». وقد يفسر لك عزيزي القارئ هذه الأسئلة وتلك المشاعر كم الاغتراب الذي كان يشعر به هذا الفنان. تلك الغربة الموحشة هي سبب انتحار كثير من البشر فحين يشعر الإنسان أنه وحيد في هذا العالم ولا ينتمي إلي شيء ولم تعد المادة تشبعه ولم يعد هناك الدفء الذي يجعله يشعر بالحياة فيمن حوله ولم يسعفه إيمانه بالله كي يكمل بقية حياته يلجأ إلي الانتحار. هكذا انتحرت الفنانة »داليدا« بعد أن كانت تعيش في طفولتها في مصر في حي شبرا حيث دفء المجتمع ثم خرجت إلي باريس لتصير من أشهر فناني عصرها وملأت الدنيا غناءً وفنا، ولكن مع متغيرات الحياة لم تعد تشعر بالحياة فلجأت إلي الانتحار بعد أن تركت جملة واحدة في قصاصة ورق كتبت فيها »سامحوني لم تعد الحياة تحتمل«.إذن الغربة وحش ينهش في الكيان الداخلي للإنسان وأري أن من أهم أسبابه الآتي: أولاً: انعدام المعني: فحين يتحول الإنسان إلي كيان لا يجد لحياته معني تتحكم فيه مشاعر الغربة، فقد خلقنا الله كيانات تحمل شبهة وتحمل قيمة حتي إنه أعطي لآدم مسئولية الجنة، وقال له أن يعمل فيها وكان له سلطان عليها. وحين تتحول الحياة مجرد مقعد أمام الشرفة أو مجرد نمط حياة استهلاكي تدخل الغربة بمخالبها داخل الكيان البشري. ولا يظن أحد أن العامل الوحيد للشعور بالحياة هو العمل ولكن الشعور بالقيمة أيضا مهم جداً فالاغتراب يحدث حين تنعدم القيمة من وجهة نظر الإنسان. فحتي حينما يعمل ولكن لا يجد لعمله معني يحدث الاغتراب كما يقول سليمان الحكيم في سفر الجامعة: »التفت إلي كل أعمالي التي عملتها يداي وإلي التعب الذي تعبته في عمله فإذا الكل باطل وقبض الريح ولا منفعة تحت الشمس« (جامعة 2: 11). وهناك علاقة حقيقية بين فقدان الإنسان لمعناه الحقيقي وبين الحياة المادية. فحين تتحول الحياة إلي مجرد أفعال مادية استهلاكية ويفقد الإنسان إشباع الروح والمعني الإنساني في علاقاته بمن حوله يحدث الاغتراب. فالمعني الحقيقي للإنسان لا يمكن أن يحدث وهو منغمس في الماديات فإذا لم يكن للإنسان عمق روحي وإيمان بالله وعلاقة شخصية وحقيقية غير مزيفة بالإله والسماء يحدث الاغتراب. لذلك نجد أغلب المفكرين الملحدين يسقطون في الشعور باللامعني فيقول سارتر في روايته «الغثيان»: «كل حي يولد بلا مبرر ويستمر عن ضعف ويموت مصادفة هكذا يكون الإنسان شهوة بلا مبرر». وهذا لأن المعني الحقيقي للإنسان ليس فقط في الحياة الأرضية ولكن في العمق الأبدي الذي يحول الأيام علي الأرض إلي معاملات حب بين الإنسان والله وبين الإنسان والآخر. ولكن من لا يعرف الله لابد أن يفقد المعني وبالتالي يفقد الشعور بالحياة. ثانياً: اختلال المعايير:يقول المفكر الفرنسي »لوسيان سيباك«: »يحدث الاغتراب عندما تكون العوامل والمؤسسات التي تتحقق فيها طاقات البشر هادمة«. وهذا الرجل قد أنهي حياته وانتحر بعد قصة حب فاشلة. فما هو الحق؟ وما هو الخير؟ وما هو الجمال؟ تلك الأسئلة ناقشها كثير من الفلاسفة وإن كان كل شيء نسبيا ويختلف من مكان لمكان ومن زمان لزمان، ولكن هناك معايير تكاد تكون ثابتة يجب أن يكون كل مجتمع قائما عليها. ويحدث الاغتراب حين يشعر الفرد بأنه في مجتمع ليس له معايير فالعدل مرهون برغبات آخرين وليس قيمة أو حقيقة. والقبح كائن في كل شيء، وما يتحكم في الحياة بعض الأفراد الذين يسيئون لحياة آخرين، فالفساد والبطش وعدم الأمان يحدث حالة من حالات الاغتراب، وبالتالي يحاول الإنسان الفرار من هذه الحالة إما بالهجرة من المجتمع أو تدميره لأنه يتحول إلي كيان سلبي مدمر. كما يقول «إيرك فروم»: «الاغتراب هو نمط حياة يعيش الإنسان كشيء غريب ويكون غريباً حتي عن نفسه». ثالثاً: العزلة والفردية: وقد يكون الاغتراب حادثا نتيجة نمط حياة فردي منعزل، وهذا ما نحاول أن ندق ناقوس الخطر للأجيال القادمة فحين يعيش أفراد البيت الواحد كأغراب، ولا توجد بينهم لغة حوار أو حياة مشتركة، ويكون كل واحد يجلس أمام جهاز كمبيوتر أو علي الموبايل ليعيش في عالمه الافتراضي، فلابد أن يحدث الاغتراب. فيقول «هيدجر» الفيلسوف الكبير: «اللامأوي أصبح مصير العالم الذي أصبح فيه الإنسان بلا جذور».فالجذر هو حالة الشعور بالانتماء إلي العائلة وإلي الوطن وإلي الإنسانية، ولكن حين يحيا الإنسان وهو منعزل عن كل شيء ولا يشعر إلا بذاته فقط يحدث الاغتراب الكياني وفقدان الإنسان لمعني هام في إنسانيته. كما يقول الفيلسوف «هيجل»: «الأنا الذي هو نحن والنحن الذي هو أنا». هذا هو معني الإنسانية فحين تكون الحياة الأنا فقط قد يتحول الإنسان إلي قنبلة مدمرة كما نري في هؤلاء الإرهابيين الذين يتركون عائلاتهم وأوطانهم ليدخلوا في كيانات مدمرة ويقول في هذا «إيرك فروم»: «النزعة التدميرية هي الشكل الفعال للانسحاب، وأن دافع التدمير ينجم من الخوف من أن يدمره الآخرون». عزيزي القارئ، الغربة وحش كائن في داخل البشر، بينما الحل لهذه المشاعر هي أن تعود الإنسانية مرة أخري إلي صورتها الأولي التي أبدع الله في خلقتها، أن نحب بعضا البعض ونحب الله، أن نتخلي عن فرديتنا، وأن يشعر كل منا أنه مهم جداً للآخر والآخر مهم جداً لنا. أن تعود البيوت دافئة وأن تسود الحارة والشارع والمدينة روح الحب من جديد.
كاهن كنيسة المغارة الشهيرة بأبى سرجة الاثرية لمزيد من مقالات القمص أنجيلوس جرجس