تتلاشى الغيوم التى كانت تغطى بشكل متعمد السياسة الخارجية المصرية، لتظهر خروجا راديكاليا عن المحافظة التى لطالما ميزت التحركات المصرية فى الخارج خلال العقدين الماضيين. ليس ثمة شكوك فى أن مصر اليوم تقف فى الجهة المقابلة تماما لنقطة تموضعها فى الشرق الأوسط قبل نحو ثلاثة أعوام. بعد تقارب غير مسبوق بين مصر ودول الخليج العربى مع الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين، كان التردد المصرى فى المشاركة بتوغل فى حرب اليمن مقدمة فقط. الموقف الجديد من سوريا كان النهاية المتوقعة.مع ذلك مازال ينقص مصر بعض الثقة فى النفس. الأجهزة والوزارات والمؤسسات المهيمنة على القرار مكبلة بشعرة معاوية التى مازالت تحافظ على علاقات يشوبها الركود مع حلفائها التقليديين. لن يكون من الحكمة إطلاقا انهاء هذا التحالف العربى الضرورى لمصر والخليج على حد سواء. غياب الثقة والإمساك الخجول بالدور الطبيعى لمصر فى المنطقة أيضا ليس مناسبا لتقلبات عاصفة تتحكم بمقادير المنطقة اليوم. الاستقلال الذى تريد الإدارة المصرية التأكيد عليه عبر سلوكها على الساحة الإقليمية ليس بدعة غير متخيلة من دولة بحجم مصر. المسئولون ليسوا فى حاجة إلى تذكير الآخرين طوال الوقت بأن مصر دولة كبيرة، ويجب أن تعامل على هذا الأساس. ثمة حساسية مفرطة وغير مبررة تكاد تصل إلى حد التشنج فى اللغة الصادرة من القاهرة، والتصريحات المتعجلة من كبار المسئولين هناك. لا أحد يلوم مصر على دعمها للجيش السورى فى مواجهة فصائل معارضة صار المتشددون رؤوس غالبيتها. ولا أحد يرغب فى كبح الموقف المصرى أو وضع عراقيل أمام تعبيره إلى آخر مدى عما يدور داخل العقل الحاكم فى مصر. من البديهيات التى فرضتها موازين القوة فى المنطقة حفاظ مصر والسعودية خصوصا على الحد الأدنى من علاقات لم ترق يوما إلى مستوى التحالف. لن يكون مفاجئا لأحد تسوية الخلافات العالقة قريبا. تقول مصادر إن زعماء عرب من دول متعددة دخلوا على الخط كوسطاء لإنهاء أزمة يسعى المسئولون الخليجيون أكثر من أى أحد لوضع حد لها. أهمية التصالح مع مصر من وجهة النظر الخليجية تكمن فى ضمان دعمها الحاسم فى وقت تمر فيه المنطقة بمتغيرات وجودية بالنسبة للكثير من الدول العربية، والمراكز الحضارية القديمة والحديثة فى الشرق الأوسط.بكلام أوضح فإن الفلسفة الخليجية لمرحلة ما بعد التسوية مع مصر تتمثل فى إزالة أى مبررات قد تدفع القاهرة للذهاب إلى حد الخروج من البيت العربى قاصدة البيت الإيراني. لكن المشكلة الرئيسية هى أن الطرفين وقعا فى فخ قصور الفهم الاستراتيجى لشكل المنطقة الجديد ومتطلباته. لا يدرك الكثيرون فى الخليج أن مصر تسعى للتقارب مع روسيا، ولا تهتم كثيرا بالتماهى فى المواقف مع إيران. ولا يفهم الكثير من المسئولين المصريين أن التحالف مع روسيا يعنى بالضرورة القرب من إيران، ولو من دون قصد أو تخطيط مسبق. مفهوم جدا الاصطفاف إلى جانب روسيا لتحقيق توازن ما بين حصص التأثيرالتى تتقاسمها القوى العظمى فى المنطقة. منذ توجه القاهرة نحو موسكو بعد ثورة 30 يونيو مباشرة، صار بناء علاقات وطيدة مع الروس موضة فى المنطقة. لكن سلوك الروس فى سوريا والعراق واليمن جعل من الاصطفاف مع الإيرانيين ثمنا للتوافق مع موسكو. العملية المتسارعة لإعادة التموضع التى تقوم بها مصر على المستوى الإقليمى اليوم تشبه ذلك التحول التاريخى فى السياسة الخارجية المصرية فى اتجاه الولاياتالمتحدة بعد حرب 1973. قبل الرئيس السادات بمحتوى الطرد المرسل من واشنطن بكل ما فيه من أجل انضمام مصر إلى قائمة حلفائها. محتوى الطرد كان إسرائيل. القبول بسلام يرقى إلى تطبيع - أقله أمنى وعسكرى - مع إسرائيل كشرط للدوران فى المحور الأمريكى كان بداية الطريق نحو معاهدة السلام عام 1979. ليس طبيعيا أن تكرر مصرالخطأ نفسه اليوم. صار واضحا أن الروس يملكون هم أيضا طردا يحوى بداخله الورقة الإيرانية. إذا كانت القاهرة تريد التحالف مع موسكو فعليها أولا الانتقال من الفريق العربى إلى الفريق الإيرانى المنافس. مع الوقت ستجد مصر نفسها وقد تحولت من موقع حارس المرمى فى الفريق الخليجي، إلى مركز المهاجم فى الفريق الإيراني! لا يتناسب مع مصر هذا الدور الذى يحلم به الإيرانيون. عندما كانت مصر فى موقف الدفاع تحت ضغط دولى كبير عام 2013، ألقى الخليجيون بكل ثقلهم خلفها حتى تمكنت من العودة للوقوف مرة أخرى على قدميها. بعد الاتفاق النووى مع إيران، وصعود دونالد ترامب إلى البيت الأبيض فى واشنطن صار الخليج هذه المرة هو من يحتاج إلى المساعدة. ليس صحيحا أن تركيا صارت الظهير السنى البديل لبعض الدول الخليجية. لا تعدو كل هذه التحركات كونها تحالفات مؤقتة فى وقت غابت فيه مصر عن المعادلة الإقليمية تماما. يعرف الخليجيون أنه لا يمكنهم الثقة بالأتراك الذين لا يعملون لصالح أحد سوى إذا كان مستعدا لتحقيق استراتيجياتهم لتوسيع النفوذ دون توقف. سيعود تطلع الخليجيين نحو مصر لا محالة. بعد تمكنها من استعادة ثقة التصرف بكثير من الاستقلال عقب 6 أعوام من التراجع، على مصر أن تتحلى بثقة تقديم الدعم للآخرين بما لا يضر بمصالحها ودورها المستعاد. لمزيد من مقالات أحمد أبودوح