أول كتاب اشتريته فى حياتى، كان من تأليف «الكابتن لطيف». اسم الكتاب هو «الكرة حياتى»، وبرغم أنى لا أجده الآن لدىّ، إلا أن تفاصيله ومشاعره ترسبت حتى استقرت فى أعماق روحى ووجدانى.. وما أدراك بما يعلق بوجدان صبى! من منا لا يحب «الكابتن لطيف»؟!.. سواء كنت من مشجعى الزمالك، الذى ينتمى إليه، أو الأهلى أو الاسماعيلى أو المصرى البورسعيدى أو الاتحاد السكندرى أو غيرها من الأندية، هل يمكن أن تكره «محمد لطيف»؟.. هو أيقونة الكرة المصرية فى القرن العشرين، وشيخ المعلقين، والسيد الطيب وسط عدد محدود من الأسماء، التى تحظى بإجماع الجمهور من المشجعين. من يصدق أن «الكابتن لطيف» الذى حلت ذكرى ميلاده فى 23 أكتوبر، قد أتم 26 عاما من الغياب؟.. عندما تراه الآن على الشاشة أو تسمع صوته فى تعليق على مباراة قديمة هل تشعر بأنه قد رحل عام 1990؟.. لماذا يتمتع بكل هذا الحضور حتى بعد الرحيل؟! عنوان الإجابة فى نظرى، هو أنه كان (إنسانا طبيعيا).. هو النجم الشهير والرجل البسيط معا، هو الجاد فى عمله خفيف الظل فى حياته، هو واحد من البشر الطبيعيين.. يفرح ويغضب.. يصيب ويخطئ.. لا يجيد ارتداء الأقنعة.. لذا فإن روحه دوما على وجهه ولسانه بادية. رأيت «الكابتن لطيف» مرة واحدة عن بعد داخل نادى الزمالك، لم أكن صحفيا وقتها حتى أحاول لقاءه، بل مجرد طالب فى الثانوى كان أول كتاب يقرأه فى حياته هو كتابه؛ «الكرة حياتى». ظللت أنظر إليه لأرى كيف يمكن أن يسير التاريخ على قدمين بكل تواضع وبساطة. لو كنت صحفيا وقتها لسعيت إلى محاورته، لكن من أحاور؟.. ماذا سيكشف الصحفى من أسرار عن (إنسان) حياته كتاب مفتوح دون أسوار؟. المرح وحب الحياة والناس، عنوان رئيسى فى صفحة حياته. تستطيع أن ترى ابتسامته وتسمع ضحكته حتى بين سطور كتابه، حيث ينقل قصة إصابة زميله نجم الزمالك الراحل حنفى بسطان بدور برد ورعشة شديدة قبل مباراة مهمة فى الخارج كان لابد أن يلعبها، عندئذ فكر اللاعبون فى التعامل مع الأمر، فقاموا بسكب زجاجة من الزيت على جسده بالكامل لتدفئته، ليظهر جسم النجم الأسمر الشهير وقتها أسودا لامعا براقا، بشكل مثير للضحك. فى كتابه أيضا، الذى أتمنى إعادة طباعته وأنقل عنه الآن من الذاكرة بكل أسف، تستطيع أن تجد حسا أدبيا، عبر اختيار القصص التى يرويها من بين مئات الحكايات التى مرت به فى تاريخه. فهو يتذكر مقالا كتبه ناقد رياضى كبير كتوصيات للاعبى المنتخب - وهو أحدهم- قبل مشاركتهم فى بطولة خارجية مهمة، لعلها كانت دورة الألعاب الأوليمبية فى برلين عام 36، ولم يكن المقال يرتبط بالأمور الفنية فى الكرة، بل راح الناقد يخاطب اللاعبين قائلا: إن البطولة تقام فى واحدة من البلاد البعيدة الباردة، التى تقبل فيها الفتيات على الرجل الشرقى ببشرته السمراء المحببة لهن، لذا فإن الضغوط عليكم ستكون كبيرة، وإذا أردتم أن تحققوا شيئا فى البطولة لوطنكم، فلابد من اتباع بعض النصائح حتى تبتعد الفتيات عنكم، وتنفر منكم، وهى أن تطيلوا شعوركم وألا تحلقوا ذقونكم أو تهتموا بأناقة ملابسكم، حتى يبدو كل واحد منكم كالغول. بهذا يمكنكم أن تركزوا فى مبارياتكم وتعودوا سالمين.. ويقول «الكابتن لطيف» إن اللاعبين قد التزموا بالفعل بهذه التوصيات!. ما الذى يمكن أن يقال عن مدرسة محمد لطيف فى التعليق الكروى؟.. ماذا نحكى عن رجل عاشت الجماهير مع صوته وروحه ومرحه، خمس بطولات فى كأس العالم، منذ عام 62 فى سويسرا حتى عام 82 فى إسبانيا؟.. وما الجديد الذى يحكى عن مبدع نحت بكلماته وتعبيراته فى الوجدان تاريخا من حب اللعبة عبر التعليق على عشرات المباريات المحلية والإفريقية لمختلف الفرق المصرية؟!. «وشك حلو يا لطيف».. هتاف شهير، كانت تردده جماهير الفرق المختلفة فى المدرجات، عندما تلمحه جالسا للتعليق على المباراة.. وهو الهتاف الذى يبدو أنه كان يقلقه فى بعض الأحيان خاصة فى المباريات الصعبة.. سمعت الهتاف من جماهير الإسماعيلية فى التليفزيون، فى إحدى المباريات الإفريقية المهمة للنادى الإسماعيلى فى الثمانينيات، لأفاجأ بعدها برد فعل تلقائى بسيط من الرجل، لم يكن ليفهمه أحد إلا إذا سمع الهتاف.. قال لطيف: «ربنا يستر بقى»!. والبشر الطبيعيون يصيبون ويخطأون، لاسيما البسطاء التلقائيون، وكذلك كان «الكابتن لطيف».. لم يكن مستهجنا أن يتم اختياره، وهو ابن نادى الزمالك، للتعليق على مباريات القمة بين الزمالك والأهلى، فهو «الكابتن لطيف» فى النهاية، لكنه أيضا - كبشر- كان يجرفه الحنين فى بعض الأحيان فينسى الحياد، وفى إحدى هذه المباريات هاهو ينفعل بعد توالى ضياع الفرص للزمالك ليقول: «حنندم على كل الفرص دى بعد كده»!. على من تعود «حنندم» هذه يا كابتن؟!.. «كده الأهلاوية يزعلوا».. لكن أحدا لم يكن يغضب فى الأغلب.. فهو «الكابتن لطيف» فى النهاية. وفى مباريات أخرى، يمكنك أن تعرف وأنت تشاهد فى منزلك أن «الكابتن لطيف» يتناول الشاى فى أثناء تعليقه.. كيف؟.. يسمع المشاهد فى بداية المباراة صوت باب «كابينة التعليق» ينفتح، يليه صوت يهمس قائلا: «شاى شاى».. وبعد دقائق يأتى صوت الباب مرة أخرى، يعقبه صوت تقليب ملعقة فى كوب.. كان «الكابتن لطيف» إذن يطلب كوبا من الشاى من عامل البوفيه فى الاستاد!. وماذا فى ذلك؟.. أيعد خروجا عن احترافية التعليق وإتقانه؟.. هو يتصرف بتلقائية كبشر.. لا بأس.. افعل ما تشاء يا سيدى.. أنت «الكابتن لطيف» فى النهاية.. بل لعلنا نحن من نقدم لك الآن - فى عيد مولدك- قدحا جديدا من الشاى بنعناع الحنين.. الحنين إلى صدق مازلنا وسط ركام الزيف نتلمسه.. والشوق إلى روح نفتش عنها بين القوالب المتراصة.. لا فى «الكرة» وحدها بل «الحياة» كلها.. فإلى روحك الرحمة والسلام.. حيث تكون.