حين نتحدث عن الزمان العالمى فنحن نتكلم عن مجال زمنى بالغ الاتساع وحدته قرن من القرون التى مرت بها البشرية. ونحن نعرف من تاريخ العالم أن كل قرن من القرون السابقة كانت له سمات أساسية فارقة تميزه عن غيره من القرون. ولو رجعنا إلى الفكرة المحورية التى سبق للمفكر الإيرانى المعروف «على شريعتى» أن أثارها حين قرر «أنه على الباحث فى المجتمعات الإسلامية أن يسأل نفسه أولا «فى أى زمن نعيش» قبل أن يواجه المشكلات المتعددة التى تواجه مجتمعة» نجده قد وضع يده على السمات المتميزة لبعض القرون حين تساءل «هل نعيش فى القرن الثامن عشر» عصر صعود العقل والعقلانية، أم نعيش فى القرن التاسع عشر عصر الثورة الصناعية، أم فى القرن العشرين عصر الثورة العلمية والتكنولوجية؟». وعلينا أن نلاحظ أن المجتمعات العربية والإسلامية لم تعش فلسفة كل قرن من هذه القرون التى حددها «على شريعتى». ذلك أن هناك عقبات متعددة منعت المجتمعات العربية من أن تعيش عصر صعود العقل والعقلانية، لعل أهمها الجمود الفكرى والتعصب المذهبى وطغيان النصوص الإسلامية المقدسة سواء كانت القرآن أو السنة الشريفة على مجمل العقل الإسلامي، وحددت مساراته، ووضعت الخطوط الحمراء أمام انطلاق العقل النقدى لكى يعرض كل شىء على المساءلة حتى لو كان هذا الشىء نصا مقدسا، خصوصا بعد تطور مناهج العلوم الاجتماعية واللغوية التى سمحت بتفسير وتأويل النصوص الدينية فى أى دين وفق المناهج اللغوية الحديثة التى ركزت على تشريح النصوص بشكل عام. وتحليل الخطابات المعرفية المتنوعة. ومن ناحية أخرى فإن العرب والمسلمين نتيجة تراكم التخلف التاريخى بشكل عام، وسيادة النظم السياسية والاستبدادية، وغيبة الرؤى المستقبلية، وعجز البنية التحتية والبنية الفوقية للمجتمعات على تأسيس الثورة الصناعية والتكنولوجية لم يلحقوا بركب الإنسانية المتقدمة فى القرن التاسع عشر. وكذلك الحال حين عجزت هذه المجتمعات عن الدخول فى عصر الثورة العلمية والتكنولوجية الذى ميز القرن العشرين للافتقاد إلى الشروط الموضوعية والإجرائية المطلوبة لتخطى عقبات التخلف الفكري، وتأسيس المجتمعات الأكاديمية القادرة على متابعة أحدث التطورات العلمية، ليس ذلك فقط بل وللإسهام الفعال فى الاكتشافات العلمية والتطبيقات التكنولوجية. ويمكن القول إن هذه اللوحة التخطيطية التى رسمها «على شريعتى» للسمات الفارقة للقرون الماضية تمثل بذاتها الأسباب الحقيقية للتخلف التاريخى الذى شهدته المجتمعات العربية الإسلامية. غير أننا لو تأملنا هذه اللوحة التخطيطية التى رسمها لنا «على شريعتى» لاكتشفنا على الفور أنه أغفل سمات سياسية أساسية لكل قرن من هذه القرون، وهذه السمات - بغض النظر عن الثورة الصناعية والثورة العلمية والتكنولوجية ومؤخرا الثورة الاتصالية -هى التى طبعت الزمان التاريخى بطابعها وأثرت تأثيرات بالغة العمق على تكوين ومسار وتطور المجتمعات الإنسانية، خصوصا فى أطراف العالم. ونعنى فى الدول التى اصطلح على تسميتها بالدول «النامية» بعد أن استأثرت دول المركز المختلفة فى القوى العظمى باتخاذ القرارات الدولية والسياسية الحاسمة والتى أثرت على مسار الإنسانية. لكل هذه الاعتبارات وجدناالمؤرخ الإنجليزى الكبير «إريك هوبزياوم» والذى أصدر من قبل مجلدات تاريخية قيمة عن «عصر رأس المال» و«عصر الثورة» يخرج لنا تاريخا فريدا للقرن العشرين أعطى له عنوانا هو «تاريخ وجيز للقرن العشرين»، وأعطى هذا القرن وصفا بالغ الدقة حين قرر أنه كان عصر التطرقات age of exterimes ونعنى بذلك أنه القرن الذى شهد صعود عدد من الأيديولوجيات السياسية الكبرى هى الشيوعية فى الاتحاد السوفيتي، بعد نجاح الثورة البلشفية عام 1917، بالإضافة إلى صعود «النازية» باعتبارها إيديولوجيا سياسية عنصرية على يد «هتلر» وبروز «الفاشية» التى تبناها «موسولينى». وإذا أضفنا إلى ذلك النزعة العسكرية الاستعمارية اليابانية بالإضافة إلى سيادة النزعة الإمبريالية لدى الدول الأوروبية العظمي، والتى أدت إلى استعمار عديد من الدول الإفريقية والآسيوية لأدركنا أن التطرف ذكظاهرة سياسية- كان هو حقا الملح الرئيسى للقرن العشرين بغض النظر عن الإنجازات العلمية والتكنولوجية التى تمت فى رحابه. قامت الحرب العالمية الأولى والتى كانت حربا دامية بين عدد من الدول الأوروبية سعيا وراء الهيمنة العالمية المطلقة، وأعقبتها الحرب العالمية الثانية (1939-1945) والتى ذرت أساسا بين الدول الأوروبية وما أطلق عليه «دول المحور» التى تضم أساسا ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية واليابان الاستعمارية بعد أن خيل إلى «هتلر» أنه يمكن له أن يحكم القارة الأوروبية كلها خصوصا بعد السقوط السريع لفرنسا، وانطلاقه بصورة جنونية لكى يغزو الاتحاد السوفيتى وكان فى ذلك مصرعه السياسي. لأن قوات الجيش الأحمر هزمت القوات الألمانية هزيمة ساحقة وردتها عن أبواب روسيا وطاردتها بعد ذلك حتى برلين إلى أن استسلمت ألمانيا وإيطاليا واليابان. ومعنى ذلك أن «التطرف السياسى» -كما يقرر «هوبزياوم» بصورة تاريخية فذة- كان هو السمة الأساسية للقرن العشرين الوجيز مما أتاح المناخ السياسى والنفسى لتبلور شخصيات متطرفة تنتمى لإيديولوجيات مختلفة تتراوح بين اليمين واليسار. وتبدو خطورة هذه الشخصيات فى بروز نزعة غير واقعية لدى أصحابها بأنهم يمتلكون «الحقيقة المطلقة» ومن ثم فلهم الحق فى سحق خصومهم السياسيين، بل وإبادتهم فى بعض الأحيان كما حاولت ألمانيا النازية. من هنا يمكن القول إن التطرف السياسى ظاهرة نشأت وتبلورت فى أوروبا القرن العشرين، ومعنى ذلك أنها لا توجد فقط فى البلاد النامية، ولا تبرز على وجه الخصوص فى الجماعات الجهادية الإسلامية والتى تحولت مؤخرا إلى الإرهاب المعلوم، مما يدعونا إلى البحث الموضوعى عن ظاهرة التطرف السياسى وأسبابها الدولية والسياسية والاقتصادية. ولو نظرنا إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية عقب أحداث 11 سبتمبر لاكتشفنا أنها مارست التطرف السياسى بل والإرهاب ذاته لمواجهة ظاهرة الإرهاب! وتكفينا الإشارة إلى غزوها العسكرى لأفغانستان، وحربها الإجرامية ضد العراق، مما أدى إلى سقوط النظام العراقى وتفكك المجتمع وتحول العراق إلى دولة فاشلة بكل ما تعنيه الكلمة من معني. غير أن الذى يعنينا من سرد هذا التطور التاريخى أنه حدثت نقلة كيفية فى مسار الإنسانية عقب انتهاء الحرب الثانية عام 1945 وبعد إنشاء الأممالمتحدة. فقد حل محل التطرف السياسى الذى ميز القرن العشرين «الميل إلى تحقيق التنمية» فى مختلف بلاد العالم وفقا لأيديولوجيات سياسية متنوعة. غير أن أهم تطور حدث أن الدول الكبرى، وفى مقدمتها الولاياتالمتحدةالأمريكية، حاولت ضبط إيقاع مسارات التنمية فى الدول النامية التى استقلت حديثا بتأسيس منظمات دولية اقتصادية أبرزها «البنك الدولى» و«صندوق النقد الدولى» حتى تضمن أن الدول النامية لن تشق طريقها إلى التنمية بطريقة جذرية، وتظل تحت وصايتها إلى أبد الآبدين! ومازالت هذه المؤسسات -للأسف الشديد- تواصل دورها فى تعويق مسار التنمية الحقيقية فى البلاد النامية. لمزيد من مقالات السيد يسين