برزت القصة القصيرة في مصر أثناء الربع الثاني من القرن العشرين، وعرفت ما يسمي بالمد الرومانسي فصارت الحياة الخاصة والعلاقة العاطفية بين الرجل والمرأة بمعزل عن الواقع الكبير محورا للقص. كما أمسي البناء الفني جامدًا ينتقل في آلية من بداية إلي وسط ونهاية. وفي البداية كانت القصة القصيرة مقالاً قصصيًا وهو تجسيد لفكرة أكثر من اهتمامه برسم ملامح شخصية أو بتصوير لحدث وتطوره. وتلك خصيصة لم تقتصر علي مرحلة المقال القصصي بل استمرت في القصة القصيرة المصرية عمومًا بخواطرها الحكيمة عن الأمراض الاجتماعية والربط بين أفكار المؤلف في المجتمع والنفس وتصوير الشخصيات وسرد الأحداث سردًا تقريريًأ مباشرًا. بيد أن المقال القصصي تحول عند نجيب محفوظ إلي رؤية فنية منبثة فتتطور الشخصيات والأحداث داخل سرد قصصي محكم قابل للتطور والتحول. والسمة المميزة لعالم نجيب محفوظ القصصي هي العكوف علي اكتشاف الحاضر اكتشافًا فنيًا، وليس الحاضر هو الواقع خارج الذوات الماثل هناك في تحدد نهائي، بل هو معاصرة متدفقة متحولة في تلقائية فورية لا تعرف اكتمالاً في استمرار حركته نحو مستقبل لايعرف تعينًا. ففي عالم محفوظ نجد أن الحاضر صيرورة لا تنقطع ولاتسير في خط مستقيم فهي متعددة الاتجاهات حافلة بإمكانات لاتتحقق ومسارات غير متوقعة. ولن نجد مسافة تراتبية رمزية بين قيم المؤلف وقيم العالم الممثّل، بل سنجد لغة المؤلف مختلطة النبرات بلغة الشخصيات. وفي قصص محفوظ، كما في رواياته، تتعدد المفارقات؛المقدمات المتشابهة في تلك الأعمال تؤدي إلي نتائج متضادة، وما كان مقصودًا به الجد كل الجد يؤدي إلي أبشع أشكال الهزل. ولا يؤدي إنجاز الأهداف العامة إلي سعادة الأفراد بل قد يؤدي إلي مأزق. وكثيرًا ما يكون المصير الفردي في الحاضر الجزئي أثرًأ جانبيًا لتحقيق إرادة الحياة عند النوع البشري، فتحقيق غايات الإنسانية الكبري قد يكون مصحوبًا بتضحيات الأفراد وجعلهم نهبًا للنفي والغربة والعبث. وقد تدمر الثورات الثوريين وقد يقطف ثمارها الانتهازيون والجبناء. وبالرغم من كل ذلك لا يلغي السرد إمكان لحظات تحقق وإشباع عميقة في التأمل الصوفي والحب والصحبة وحتي في التضحية. وقد كان الفرق بين القصص القصيرة عند محفوظ ورواياته الأولي واضحًا، فالقصة القصيرة كانت تقتنص الجانب الأكثر تركيزًا وخصوصية من تجربة الوجود الإنساني، أما رواياته فشكلها متأقلم علي وصف موسع للطابع الجوهري لعصر أو مرحلة أو شخصية إنسانية في شبكة متلاحمة. فهي تكشف العلاقات الأوسع والأعمق للحياة علي نطاق واسع. وتصور القصة علي طريقة موباسان انقلابًا واحدًأ يقوم علي المفارقة. ويورد محفوظ في قصصه المبكرة أصداء موباسان عن غرابة الحياة الإنسانية وشدة تقلباتها، وعن ضآلة ما يلزم للتدمير أو الإنقاذ. ففي قصة «هذيان» الزوج شديد الحب لزوجته، وحينما مرضت ضحي بكل شيء في سبيل علاجها ولازم فراشها، ولكنها تهذي باسم خطيبها السابق، فيقطع عنها الدواء لكي تواصل الهذيان وتكشف عن السر فماتت. وهنا يؤنبه ضميره وينتحر في ميلودرامية صارخة. هذا هو الباطن خيانة وقتل، ولكن الظاهر يجيء علي لسان الناس عن روعة الحب وعن العاشق الذي لم يصبر علي فراق زوجته فقضي علي نفسه بعد موتها بأيام. وعاد نجيب محفوظ إلي نشر مجموعة قصصية بعنوان «دنيا الله» في1963، وكان حينئذ في قمة نضجه بعد استكمال رواياته الاجتماعية الواقعية والانتقال إلي مرحلة جديدة تبدأ «بأولاد حارتنا»، «اللص والكلاب» و«السمان والخريف». لذلك جاءت المجموعة علامة فارقة في كتابته تحوي الكثير من الخيوط المرشدة التي تضيء عالمه القصصي والروائي. وهي ليست منقطعة الصلة بالبدايات من حيث الفلسفة الفنية ومشاكل التقنية وإن تكن قطعت شوطًأ طويلاً علي طريق النضج. ولم يعد يتدخل في السرد بتعليقاته المباشرة أو يخاطب القارئ. ولم تعد الصيغ البلاغية مقصودة لذاتها كزائدة تجميلية، بل أصبحت اللغة أكثر طواعية في ممارسة الوظائف الشخصية. والقصة القصيرة عند نجيب محفوظ ليست راويًا غريبًا يتكلم إلي قارئ غريب، فالراوي عنده يفترض استجابة جماعية لما يقدمه خياله الجامح من مواقف قد تبدو موغلة في الخصوصية. وهذا الراوي يبث الاضطراب في مشاعر قارئ القصة، فهو راو مهتم بالكشف عن النموذجي العام داخل الفردي وتفاصيله. وتظل القصة القصيرة عنده تختلف عن الرواية، لا في الطول، بل في البنية والتصور, ولنأخذ «أصداء السيرة الذاتية» مثلا، فهي ليست مجموعًا من الشذرات القصصية القصيرة، ففيها نستطيع إدراك وجود حبكة تحتية قد لاتكون مرئية علي السطح تربط كل الأصداء والخيوط المنفصلة معًا. كما تبدو القطع القصصية في «المرايا» انعاكاسات مهمشة لتجربة كلية. لمزيد من مقالات إبراهيم فتحى