لا تبدو بريطانيا مستعدة بعد لتصديق ما حصل عقب الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي. تتصرف لندن اليوم كمن قرر القفز في المحيط هربا من «عصابة» تطارده، لكنه تذكر متأخرا أنه لم يتعلم السباحة من قبل. بريطانيا ليست مستعدة للدخول في مفاوضات الخروج من الاتحاد لأن معسكر الخروج لا يبدو مستعدا لتنفيذ وعوده. يفهم عمدة لندن السابق بوريس جونسون جيدا أنه صار في مواجهة أمواج المحيط التي لا ترحم. وعد بوريس ومعه نايجل فراج ومايكل جوف ودنكان سميث باستعادة السيطرة على الحدود ومنع المزيد من المهاجرين وضخ الأموال التي كانت تُدفع في السابق لأوروبا في الهيئة الوطنية للرعاية الصحية، التي هي للبريطانيين بمثابة الجيش بكل ما يمثله في مصر. ما حصل هو أن هؤلاء الساسة اكتشفوا بعد الاستفتاء أنهم غير قادرين عمليا على تنفيذ أي من هذه الوعود. السبب الرئيسي في ذلك هم أنهم أحرقوا البيت كله من أجل أن يطردوا فأرا. لا يملك بوريس أي خطة مستقبلية لما بعد الاستفتاء، ببساطة لأن معسكر الخروج الذي كان يقوده لم يتصور أن الناس ستصوت فعلا لصالح الخروج. كل تصرفاته لم تكن سوى مناظرات إعلامية فارغة لا تقدم للجمهور سوى تناقضات لا معنى لها. لم يرتق أبدا لمستوى القضية التي سترسم مستقبل البلد على المستوى الوطني. لعب بوريس السياسة عندما لم يكن في موضع السياسة. تبنى بوريس أيضا أجندة نايجل فراج المعادية للمهاجرين الأجانب. بعد الاستفتاء تحول شعار معسكر الخروج من «دعونا نستعيد السيطرة» إلى «عد إلى بلدك». اليوم صار عاديا في بريطانيا أن تكون عنصريا. حتى الوزراء والسياسيون والصحفيون المعروفون باتوا قلقين على سلامتهم الشخصية ليس لسبب سوى لأنهم من أصول أجنبية. يدفع المهاجرون من أوروبا الشرقية والمسلمون الثمن الأكبر وسط فوضى الكراهية التي باتت تحكم شوارع بريطانيا. بات كل واحد منا ينتظر اللحظة التي يستوقفه فيها شخص أبيض يغطيه الوشم من كل جانب كي يخبره أن عليه مغادرة البلاد، لأن بريطانيا صوتت من أجل أن تصبح دولة عنصرية! تمكن بوريس ونايجل من إخفاء عنصرية الغطاء السياسي والإعلامي لبرنامجهما قبل الاستفتاء. الآن يعيدان نفس الغطاء السياسي للعنصرية التي أطلقها هذا البرنامج السقيم. كل هذه المصائب التي انهمرت على رأسه كزخات المطر، أرقت بوريس الذي لطالما حلم بالجلوس على مقعد رئيس الوزراء، لكنه بات اليوم أكثر قناعة بأن الفرصة لم تحن بعد.لم يملك بوريس أي خيارات سوى المخاطرة بالهروب من المشهد برمته. قبل اسبوع واحد كان بوريس يتصور أنه مازال قادرا على أن يعد بتحقيق المستحيل. في مقاله بصحيفة ديلي تلجراف قال إن بريطانيا ستبني علاقات قوية مع الاتحاد الأوروبي تعتمد على الشراكة والتجارة المتبادلة دون أي رسوم. سيظل البريطانيون يعملون في دول الاتحاد، وسيتمتع الأوروبيون المقيمون هنا بالحماية الكاملة، وستحظى الشركات البريطانية بميزة الوصول إلى السوق الأوروبية». انسحب بوريس من السباق على مقعد رئاسة الوزراء ليس لغضبه من خيانة مايكل جوف بقدر إدراكه أخيرا أنه لم يعد الشخص الوحيد الذي يعلم أن ما يقوله صار مستحيلا. بدأ الكثير من البريطانيين يقتنعون أن الرجل الذي حطم البلد لن يتمكن أبدا من إصلاحه؟ دخل بوريس عمدا ثلاجة السياسة بانتظار اللحظة المناسبة التي يعاود المطالبة فيها برئاسة الوزراء التي صار يراها حقا مكتسبا. في المقابل لم يعد أمام المناصرين للبقاء في الاتحاد سوى الضغط من أجل تذكير أعضاء البرلمان أن نتيجة الاستفتاء ليست ملزمة دستوريا، يستطيع مجلس العموم، الذي من المنتظر أن يصوت على اعتماد هذه النتيجة والسماح للحكومة بالتقدم إلى الاتحاد الأوروبي بطلب الخروج، تعليقها وكأن شيئا لم يكن. في سبيل ذلك يحتاج البريطانيون إلى وقوف أحد الحزبين الكبيرين خلفهم من أجل تحقيق حلمهم في العودة مرة أخرى قبل فوات الأوان. يعلم غالبية البريطانيين أن السبب في الأزمة التي يعيشونها اليوم هو حزب المحافظين المنقسم حول أوروبا منذ البداية. كان التصور سابقا أن الامل يكمن في أن حزب العمال، الذي يناصر أغلب أعضائه البقاء في أوروبا، سيكون هو البديل المحتمل لقيادة مشروع العودة إليها مرة أخرى، قبل أن يكتشفوا أنه غارق لا محالة. تضرب الصراعات حزب العمال بعنف منذ إعلان نتيجة الاستفتاء. بات زعيم الحزب جيرمي كوربين متهما بأنه لم يقم بكل ما يلزم كي يقنع جمهور الحزب بالتصويت لصالح البقاء. اصطدم كوربين بحقيقة أن أغلب الوزراء في حكومة الظل التي يعينها تخلوا عنه. تقول بولي تويمبي في الجارديان إن كوربين يشبه «قائد السفينة الذي اختار أن يحبس نفسه في غرفته، بينما تسرع سفينته نحو جبل الجليد». يتكون ركاب هذه السفينة من جمهور حزب العمال، وأيضا هؤلاء الذين يأملون في قدرته على لعب دور ما لإنقاذ البلد. ما لا يدركه كل هؤلاء هو أن نتيجة الاستفتاء لم تقسم أكبر حزبين في البلاد وحسب، لكنها أيضا قذفت بالمحافظين إلى أقصى اليمين، وألقت بالعمال إلى أقصى اليسار. تجد غالبية الوسط نفسها في قلب المحيط الذي دُفعت إليه دفعا كي تهرب من «العصابة» الأوروبية، من دون أن تستوعب أنها لم تتعلم السباحة من قبل. لمزيد من مقالات أحمد أبودوح