في لحظة فارقة ومفصلية من عمر الأمة المصرية تبدو المواقف العائمة تعبيرا جليا عن تصور انتهازي للعالم، وتبدو المزايدات المفتعلة انعكاسا لخلل بنائي في معنى النخبة وماهيتها، وتصوراتها المنفصلة عن الواقع، محتمية برطان فارغ لا يقيم أود دولة، ولا يحمل قيمة. عبر أربعين عاما من التجريف السياسي/ الثقافي حدث ما يمكن أن يسمى « تآكل النخبة»، وتبنت قطاعات واسعة منها في كثير من مواقفها ثقافة التبرير للحاصل سياسيا وثقافيا، وبدت صامتة أمام التحالف المشبوه بين الفساد والرجعية، هذه الصيغة المتمترسة في بنية المجتمع منذ العام 1974م. وظلت ثلة من المثقفين قابضة على الجمر، تدرك مسئوليتها التاريخية، ودورها التنويري الحقيقي لا المفتعل أو الموظف لخدمة الاستبداد، وبدت مصر قادرة على اكتشاف صوتها الفاعل والمتمثل في صيحات الجماهير التي خرجت في يناير لتعلن رفضها لزواج المال بالسلطة، وللقمع السياسي، معلنة هتافها التاريخي الهادر: عيش/ حرية/ عدالة اجتماعية.ثم كان الخروج الكبير للجماهير في ثورة الثلاثين من يونيو لتعلن رفضها لوصاية دولة الكهنوت الجديدة التي أرسى دعائمها نظام المرشد وأتباعه. بدءا من ثورة يناير ومرورا بثورة يونيو ووصولا إلى لحظتنا الراهنة التي اكتملت فيها مؤسسات الدولة المصرية باستكمال خارطة الطريق بروافدها الثلاثة: إنجاز الدستور/ الانتخابات الرئاسية/ الانتخابات البرلمانية، ظلت حركة النخبة المصرية – في قطاعات واسعة منها – متأخرة عن حركة الجماهير تارة، أو ماضوية تسير إلى الوراء تارة ثانية، أو مزايدة تفتعل المعارك الوهمية تارة ثالثة، وفي كل أصبحنا أمام مسلك انتهازي تعس لا يليق بقادة رأي، ولا يرقى لطموح وطن ينهض. ابتلي المصريون بمجموعات من المتثاقفين، يحسبون على النخبة زورا وبهتانا، تعرفهم بسيماهم، تراهم رجعيين بامتياز، هؤلاء الماضويون لا يزالون يدافعون عن دولة المرشد ولو من طرف خفي، ويسعون لاستعادة زمنها الغابر، لا فرق بينهم وبين الدواعش، فكلاهما يُحَكم الماضي في الحاضر، ويجعل مما كان، وصيا على ما هو كائن، ووقت الجد سيرفع السلاح في وجهك بعد أن يتهمك بالزندقة والضلال، مبررا لنفسه أن يقتلك!. هؤلاء الرجعيون أقل ثقافة وأكثر عنفا من الصنف الثاني الذي نقف فيه أمام مجموعات من أذناب العولمة الأمريكية، من الحاملين رطانا فارغا عن دمج واستيعاب المتطرفين، في تنفيذ بارع للخطاب الأمريكي وممثله الحالي أوباما، وهؤلاء يوظفون كل شيء لخدمة سيدهم الرأسمالي المهيمن على مقدرات العالم، والطرفان ( الرجعي والملتحق بالعولمة الأمريكية) متماسان في التصور الجاهز عن العالم، حيث اعتماد الاقتصاد الاستهلاكي ابن التوحش الرأسمالي، فضلا عن اللعب تحت مظلة السيد الأمريكي، خاصة مع تنامي العلاقة الجدلية بين الرجعية وقوى الاستعمار الجديد في العالم.ثمة صنف ثالث لا يعدو كونه مجموعات من الحمقى الباحثين عن دور، عبر نضالات مجانية، ومتخيلة، وتتشارك الأطراف جميعها في كونها أفقدت الثورة معناها من جهة، وتدعم فكرة اللادولة من جهة ثانية، وبما يعني خروجا حقيقيا من التاريخ.ومن المفارقات المخزية حالة المزايدة التي تتصاعد لدى البعض كل مساء، بينما يقضون نهاراتهم دفاعا عن مؤسسة بها عطب، أو وزارة منفصلة عن الجماهير، لا لشيء إلا لأنهم يقتسمون كعكتها، ويبررون لوزيرها خياله البليد، هؤلاء الذين يرفعون رايات الثورة زورا بيد، بينما يغتالون باليد الأخرى أنبل ما في هذا الوطن، هم حفنة من القوادين الجدد، الذين يضعون قدما في النضال الوهمي، وقدما أخرى في التكريس للفساد. ووسط هذه الثعالب التى ترعى في الكروم، توجد جماعات من المتربصين الذين يؤممون الفضاء العام لصالح المقدس، ويتجهون بالواقع المصري وجهة سلفية تفضي إلى الهاوية، وتكرس للتعصب الديني والاحتقان الاجتماعي والتوتر الطائفي، وهؤلاء يطرحون خطابات دينية متزمتة، ويخلطون من جديد بين الديني والسياسي، ويتعاطون مع الموروث باعتباره دواء شافيا من كل داء، فيضعوننا منذ الوهلة الأولى خارج الزمن.وفي هذا السياق الصاخب توجد نخب رجال الأعمال التي تدافع عن مصالح رأس المال، وتضع نفسها موضع الأجير المدافع عن سيده باستمرار، حتى لو كان هذا السيد متحالفا مع الصهيونية العالمية، أو نافذة إخوانية، أو أي شيء، المهم لدى هؤلاء استمرار مكاسبهم ولو على أنقاض وطن يعاني خللا في العدالة الاجتماعية، ويتشكل السواد الأعظم من ناسه من جملة الطبقات المنسحقة والمهمشة. ومن نكد الدنيا وعجائبها التي لا تنتهي أيضا أن المسافات الأيديولوجية هنا تتآكل بين رجل الأعمال اليميني والمثقف التنويري، وصاحب رأس المال الليبرالي والنخب التي تقدم نفسها باعتبارها في أقصى درجات اليسار الراديكالي!!. ولأجل كل تلك الأسباب فقدت الجماهير ثقتها في قطاعات عارمة من النخبة، وبدت تتعامل معها باعتبارها تمارس ارتزاقا يوميا عبر الرطان، وبما يحتم على النخبة ذاتها أن تسائل نفسها لماذا أصبحت في واد، والكتل الشعبية في واد آخر؟!. وبعد.. تحتاج المجتمعات المسكونة بمشكلات سياسية/ ثقافية متراكمة إلى نخب جديدة تؤمن بالناس أكثر من إيمانها بذواتها المتضخمة، وتؤمن بالوطن لا الأنظمة، وتدرك أن دورها الحقيقي يبدأ من قدرتها على قراءة واقعها قراءة موضوعية منهجية، تبدأ بعدها في تبصير الناس بواقعهم وتنويرهم، وتحرير وعيهم من الأغلال والقيود والخرافات، فيصبحوا أكثر رفضا للرجعية والفساد والاستبداد، وأعلى إدراكا لمعنى الوطن وقيمته وجوهره النبيل. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله