لن تكون هجمات بروكسل هى الأخيرة. ما حدث فى قلب الاتحاد الأوروبى هو نجاح الجهاديين فى إثبات فشل أجهزة أوروبا الأمنية التى لم تتمكن من العثور على صلاح عبدالسلام بعد هجمات باريس الدامية التى وقعت فى نوفمبر الماضي، رغم اختبائه تحت أنفها. كان البلجيكيون يعرفون أن هذه الهجمات التى راح ضحيتها 31 شخصا قادمة لكنهم تفاجأوا لأنهم لم يعرفوا متى أو أين ستأتي. لا يتعلق الأمر إذن بحجم المعلومات التى باتت كثرتها إلى درجة التخمة تشكل مشكلة كبيرة لأجهزة الاستخبارات الأوروبية. مشكلة المعلومات ليست فى الحصول عليها، لكن فى كيفية استخدامها. المشكلة الأخرى فى بلجيكا على وجه الخصوص هى أنها الحلقة الأضعف أمنيا وسياسيا فى أوروبا. فرغم صغر حجمها وقلة عدد سكانها، تبرعت بلجيكا بمقاتلين فى صفوف داعش أكثر بكثير من جارتيها الكبيرتين بريطانياوفرنسا. ما حمى صلاح عبدالسلام على مدار أربعة أشهر منذ هروبه بعد عملية باريس هو أنه خرج عمليا من أوروبا ودخل إلى منطقة أخرى تقع فى قارة أخرى وتعيش فى قرون أخرى. الجمعيات المتشددة التى مازالت تعتاش على تبرعات دول عربية وإسلامية نقلت حى مولنبيك الذى لا يبعد جغرافيا إلا 15 دقيقة فقط عن ميدان لاجراند بلاس فى قلب بروكسل، إلى دين آخر قوامه التكفير ومن ثم ثقافة الاحتماء من القانون والتضامن المجتمعى فى سبيل تغطية من يعادى دولته. عندما كنت أبحث عن خط القطارات المناسب كى يحملنى إلى الفندق خلال أول زياراتى لبروكسل عام 2012 جلس بجانبى فى محطة المترو مواطن بلجيكى من أصل جزائرى اتضح لاحقا أنه من حى مولنبيك. قال لى وقتها إن أحدا لا يستطيع دخول الحى المحصن، حتى لو كان الجيش البلجيكى نفسه. قبل ذلك بأيام كنت فى السفارة البلجيكية فى القاهرة لمتابعة إجراءات استخراج تأشيرة السفر عندما قابلت أحد الدبلوماسيين البلجيكيين فى ممثلية الاتحاد الأوروبى فى القاهرة. كان الرجل من بروكسل. حكى لى عن المدينة التى تتخذها المؤسسة التى يعمل بها مقرا لمكاتبها وأنشطتها المتشعبة والمعقدة، ووصف لى أيضا كيف تحاول أوروبا جمع شتاتها عبر أروقة مبانى الاتحاد فى هذا الركن الأوسط من العاصمة البلجيكية الصغيرة.ت لم يستغرق طويلا كى يعاجلنى بصدمة لم أكن أنتظر قدومها. قال لى الدبلوماسى البلجيكى الذى كان هذه المرة من أصل مغربى «عندما تصل إلى بروكسل تذكر أنها مدينتنا وليست مدينتهم هم». لم يكن الدبلوماسى الذى استأمنه الاتحاد الأوروبى على شرف تمثيله يعلم أن بعد ذلك بأقل من أربع سنوات ستهز قنبلة زرعها أحد من نسب نفسه إليهم فى محطة مترو مالبيك المقابلة لمبنى المؤسسة التى من المفترض انه يدين لها بالولاء. كان الرجل الجزائرى الذى قابلته فى محطة المترو محقا فى شعوره بالمنعة داخل الحى البائس من أى قانون يحكم بلجيكا التى لا يرى نفسه جزءا منها. لم تتمكن السلطات البلجيكية من الدخول إلى حى مولنبيك لأنها فشلت فى التسلل إلى عقول البشر الذين يعيشون بداخله. الفرق بين صلاح عبدالسلام الذى اختبأ داخل الحى طويلا وحظى بشبكة حماية معقدة، وأجهزة الأمن هو أنه يتحدث لغة يفهمها سكان حيه جيدا. لم تعد المشكلة فى مولنبيك أو غيره من الأحياء التى تقبع على هامش أوروبا فى مسجد يستقطب متشددين أو شيخ يسوغ خطابهم. المشكلة خرجت إلى الأصدقاء والمقاهى العامة ووسائل التواصل الاجتماعى التى لعبت الدور الأكبر فى تجنيد أغلب المقاتلين الأجانب لمصلحة تنظيم داعش فى سوريا والعراق. ما بات مؤكدا هو أن الحكومات الأوروبية تكافح من أجل وقف تدفق شباب المسلمين على التنظيمات المتشددة فى الخارج، من دون أن تبدى أى استعداد لوقف تدفق الأفكار المتشددة على شباب المسلمين فى الداخل. ما بات فى حكم المؤكد أيضا هو أن الإخوان والجماعات المتشددة فى الغرب مازالوا يتمسكون بعد كل حادث إرهابى مروع يضرب الحضارة الأوروبية فى مقتل بإلقاء اللوم على الفقر والعجز عن الإندماج فى المجتمع والبطالة التى يعانى منها المسلمون فى أوروبا. آخر ما يريد هؤلاء الحديث عنه هو دروس الكراهية والعداء والتكفير التى يتلقاها المسلمون كل يوم عبر مواقع التواصل الاجتماعى أو فى الفضائيات أو داخل المساجد التى لطالما شكلت فراغا شاسعا ملأه المتشددون دون عناء. صار من الطبيعى اليوم رؤية الجلاليب القصيرة والعباءات النسائية السوداء والنقاب تجوب شوارع أى من العواصم الأوروبية الكبرى. كل حى تقريبا باتت له حصة من محلات الجزارة ومطاعم الأكل الحلال، وتحول الحجاب كما فى دول الشرق الأوسط إلى علامة دالة على ديانة المرأة المسلمة. بدأ قطار التشدد المسرع الذى أوصل أوروبا إلى هذه المرحلة فى الانطلاق منذ تسعينيات القرن الماضي. فى شمال فرنسا، عندما اتسعت رقعة التهديدات الإرهابية واشتدت خطورتها على وقع وصول «العشرية السوداء» فى الجزائر إلى ذروتها، بدأت موجة ترحيل الشيوخ التكفيريين إلى بروكسل، حيث استقر رعيلهم الأول فى حى مولنبيك. لاحقا خلال النصف الأول من العقد الماضي، وقبل أن تفهم أجهزة الأمن الأوروبية ما يجرى بالضبط من حولها، كانت الانفجارات تهز مدريد ومن بعدها لندن. تجد نظريات التشدد التى انتجها باحثون مرتبطون بالإخوان المسلمين فى أوروبا نفسها أمام ذوبان محقق. فشل هؤلاء الباحثون فى علاج المشكلة عندما حصروا أبعادها فى العرق العربى وجغرافيا الشرق الأوسط. الآن يجد هؤلاء أنفسهم أمام مصيبة اسمها «الإرهابيون الاوروبيون». ما بات ثابتا أن فلسفة التعامل مع معضلة الإرهاب تواجه ثورة فكرية لم تنشأ كما الأفكار البالية القديمة على ظهر شيكات التمويل التى يجيد توقيعها الإخوان والسلفيون جيدا، وإنما اشتعلت على وقع دوى الانفجارات. لكن المؤسف أننا فى مصر بالذات لا نبدو مستعدين لمسك زمام بوادر هذه الثورة وتوجيهها فى الاتجاه الذى يجب أن تسير فيه، لأن مؤسساتنا الدينية «العريقة» على عكس الباحثين والمفكرين فى الغرب، لا تتعلم من دوى الانفجارات. لمزيد من مقالات أحمد أبودوح