كان من الطبيعى ألا تجد الدعوة لتجديد الخطاب الدينى التى وجهت خطأ إلى رجال الدين فى مصر الصدى الإيجابى المتوقع، وذلك لعدة أسباب: طلب المهمة من رجال الدين كان يحمل اتهاما ضمنيا لهم بأنهم وراء التشدد الدينى، وما نسب إليه من أحداث، وهو ما أرى أنه حكم جائر لأننا نعيش فى عصر تأتيك فيه الأفكار من كل حدب وصوب دون أن تطلبها أو تحاول استدعاءها، وبالتالى ليس من الضرورى أن يكون رجال الدين فى مصر هم أسباب أفكار التشدد الدينى، السبب الثانى أن هذه المهمة، وإن كانت مهمة رجال الدين، فهى مرتبطة ارتباطا لا ينفصم بمهمة أكثر تركيبا قوامها فى رأينا إحداث تغيير ثقافى قيمى فى المجتمع ليست من مهمة رجال الدين تغيير من شأنه أن يؤدى بالضرورة إلى جعل الفكر بصفة عامة، وبالتالى الخطاب الدينى قادر على التعامل مع مشكلات المرحلة الراهنة وكل مرحلة. لن نختلف كثيرا على أن البيئة التعليمية والثقافية فى مصر لم تواكب فى العقود الخمسة الأخيرة على الأقل التغير أو التطور الذى حدث فى مثيلاتها من دول العالم فى محتوى ومناهج وطرق التعليم والتقويم والتفكير، وهو ما يوجد فراغا فكريا وأمية تعليمية لدى قطاع كبير من المجتمع جعلها أمة غير مؤهلة لأن تفكر لنفسها وجعل النخبة فى أسلوب تناولهم لمشكلات العصر إما أن تلقى بنفسها فى أحضان الماضى باحثة فيه عن الحل أو تجد فى النموذج الغربى حلولا سحرية جاهزة، فإذا أضفنا إلى ذلك الدكتاتورية السياسية والفكرية التى لم تمكن النخبة من المشاركة فى وضع حلول أبسط مشكلاتنا الحياتية، وإن حدث وشاركوا، فما نسبة الحلول التى سمحت فيها النظم السياسية للنخبة بالمشاركة بها؟. انتشر فى العالم وهو ما بدأ فى الولاياتالمتحدة فى سبعينيات القرن الماضى ما يعرف بالتفكير الناقد، كمقرر دراسى لا يحصل الخريج على شهادته الجامعية دون أن يجتازه، هذا المقرر جاء مواكبا للتفكير الناقد كأسلوب فى التعليم، اشترك كاتب هذه السطور فى 2006 فى مؤتمر فى جامعة جورج تاون بورقة بحثية حاول أن يبين فيها أوجه الشبه بين الديمقراطية والتفكير الناقد ذاهبا إلى أن الديمقراطية السياسية هى تماما التفكير الناقد كوسيلة فاعلة فى التعليم، وأن الدكتاتورية هى طريقة التعليم التقليدية، وإذا كان قد ثبت فساد الدكتاتورية كنظام سياسى يحكم العلاقة بين الحاكم والمواطنين، فطرق التدريس التقليدية طرق فاشلة يجب التخلص منها فورا، الدكتاتورية هى حكم الفرد الواحد الذى يملى آراءه وقراراته على الشعب بغض النظر عن قبولهم له، وفى طريقة التدريس التقليدية المهم هو المتحدث الوحيد الذى يلقى بمحتوى معين على الطلاب عليهم حفظه بغض النظر عن رأيهم فيه أو استيعابهم له فى الدكتاتورية لا صوت يسمع سوى صوت الحاكم، وإذا جرؤ أحد أن يتحدث حديثا مختلفا فمصيره معروف، وفى طرق التدريس التقليدية لا متحدث سوى المعلم، وإذا جرؤ طالب أن يسأل أو يشارك برأى مختلف، فمسموح للمعلم أن يجعل منه مادة للسخرية أو يخرجه خارج الفصل لجريمته الشنعاء، فى الدكتاتورية المشاركة فى الرأى مسموح بها فى حدود سياق محدد سلفا أغلبه مدح للحاكم الذى لا يخطئ، وفى طريقة التعليم التقليدية المشاركة مسموح بها فى حدود تسميع الطالب لما حفظه من المعلم، أول قيمة يعلمها التفكير الناقد للطالب مختلفا بها عن أسلوب التعليم التقليدى هى قيمة الاختلاف وقبول الآخر، وأول قيمة نتعلمها من الديمقراطية ونمارسها هى الاختلاف وقبول الرأى الآخر، يدعم التفكير الناقد أسلوب التعلم الذاتى للطالب، وبالتالى التفكير للنفس وبالنفس، وتدعم الديمقراطية التفكير المستقل والحلول الابداعية، الاختلاف وقبول الآخر يضمنان بالضرورة التنوع، والتعددوالتنوع يضمنان الاختلاف ويرسخان قيمة قبول الآخر. تجديد الفكر فى رأينا يكون بإيجاد بيئة تعليمية ثقافية سياسية تنشر قيم التنوع والاختلاف وقبول الآخر واستقلالية التفكير وترسخها فى المجتمع، هذا يكون بالعمل من ناحية على ترسيخ الممارسة الديمقراطية التى أساسها الحرية السياسية والاجتماعية والثقافية، ومن ناحية أخرى على ايجاد بيئة تعليمية تثور فيها مناهج وطرق التعليم التى تقوم على هذا التفكير الناقد الذى أوضحناه. متى سادت هذه القيم وهو ما لن يحدث بين يوم وليلة وأصبحت جزءا من عقيدة الأمة يغرسها التعليم وينميها الإعلام وترسخها المؤسسات الثقافية، أضحى التجديد عملية مستمرة لا تتوقف، وناتجا مباشرا طبيعيا لفكر مقوماته هى التنوع والاختلاف والتسامح، فكر قادر على التعامل مع مقتضيات العصر بما تحتاجه، ولما كان رجال الدين شريحة من مجتمع هذه هى قيمه السائدة، لن ننتظر منهم سوى استخدام عصرى لدين يصلح لكل زمان ومكان هو بالضرورة أحد مقومات الثقافة المصرية. لمزيد من مقالات د. بهاء درويش