من موقعي، وسط البهو، أرى النافذة العريضة، وشجرة الكافور الخضراء الكثيفة، الجراء المتسللة عبر فتحات السلك الشائك، الأضواء الخاطفة للعربات التى تمرق؛ فلا ألمح منها سوى دوامات الغبار الذى يذوى فى أثرها، البيوت البعيدة كعلب كرتون مضمخة بالطين. أشغل نفسى بتفاصيل المشهد الليلي، أتابع العصافير النازحة فى استراحتها فى الجوار حين تركن للمبيت داخل شجرة الكافور، وأنا داخل أربعة أضلاع قريبة للغاية من الشجرة، وتهاويم تلاحقنى فوق الجدران الرمادية الباهتة، الدار هادئة، الجميع فى أسرتهم يغطون، تصلنى حشرجاتهم أثر احتقان الجيوب الأنفية فى موجات «شخير» متفاوتة القوة, تصنع معزوفة نقر مع نقيق الضفادع، المشهد آلفته، ولا جديد فيه يستحثني، عدا المسن الذى شغل الحجرة المواجهة، يصدر الهمهمات غير الواضحة، ويتمتم بكلمات منقوصة، صوته الخفيض ليلًا, بما يسر لنفسه، يثير لديَّ فضيلة الاستكشاف, الجميع هنا صامت كمن تهيأ للأبدية، وإن تحدث يهذى بلغطٍ لا يُفسر- إن كان لم يزل يحتفظ بذاكرته- فهو بائس مثلي، أعزب، أصلع، فى السابعة والثلاثين، يحمل مؤهلًا مُعطلًا، وإجازة معتلة فى استخدام الحاسوب، وينتظر بيضة الديك الذهبي، أو ختمًا فضيًّا فوق «جواز سفر». يقضى ما تيسر من نهاره بمحل والده؛ يرتق ثوب العوز بالاستغناء، ويسد رقعًا مهترئة لأناس متشظية، مصطبغة بأحبارٍ لا تزول. بشر نسيجها متآكل، والبثور تملأ نفوسهم، يجرى جراحة لملابسهم المتهالكة، وليلًا يحصى فئران المجارير، ويترقب موت العجائز بالدار، ويؤنسه غطيطهم، يتحاشى رائحتهم، والارتطام بمقاعدهم المدولبة، ويمنى نفسه بكوب شاى مع عجوزٍ محاط بالأسرار. أخبرونى بأنه نهارًا لا يبارح مقعده، يمسك بكتابٍ، ويرتدى نظارة طبية داكنة الإطار ومتعددة العدسات، تقوم الدنيا وتقعد، وهو محتفظ برباطة جأشه، وعيناه لا تحيدان عنه، حتى فى أثناء رفيف الورق من صفحة لما تليها، كتمثال «شمعي» لا يُبدى ذرة انفعال لما يحدث من حوله. الليلة طويلة، باردة، والهواء فى الخارج يصفع النوافذ، الهمهمة الصادرة من تلك الحجرة هى ما يثبت جفنيَّ للأعلي، توجس، فضول، لا أدري! كوبان من الشاى الساخن كفيلان بسريان الدفء فى أوصالي، وإذابة ثلج ليلتى الطويلة. طرقت باب الحجرة عدة طرقات، لم أجد استجابة، رغم الإضاءة التى تصلنى عبر شق الباب، دفعت الباب، وعند أول منضدة، وضعت كوبى الشاى اللذين ألهبا أصابعي، التفت الرجل إليَّ وهو مستلق على سريره، لا يظهر سوى نصفه الأعلي، كان رأسه مائلًا كأنه فى غفوة. حدَّقت بعينيه، فرأيتهما تنضحان ببياضٍ منطفئ، ومثبتتين على الكتاب الذى أغلق دفتيه فيما بعد، واستودعه صدر الجلباب الأبيض المائل إلى الصفرة.. -................. مبهوتًا جلست قبالته، أتفحص هيئته، ليس من أصحاب الملامح المائعة، ليس ممن يُسند إليهم أدوار ثانوية، أبيض البشرة، مشرب بالحمرة -رغم بعض الزوائد الجلدية التى تناثرت فى العنق وحول العينين؛ لترهل جلده- شعره الفضى المرسل بإهمال، عيناه الزيتونيتين الواسعتين، وعدساته المنقسمة عبر سلسلة فضية على جانبى كتفه، كل هذا لا ينبئ بعادية، ويثنى على حدسى لاختيار الرجل لأمسياتى الفارغة، الحجرة باردة، تكاد تخلو من الأثاث، عدا مقعدين ومنضدة صغيرة بجواره، عليها إطار، به صورة لسيدة خمرية البشرة بشعر بنى متماوج، وملامح دقيقة، وكوب ماء لا يمنع أن يكون رائقًا وجود طاقم الأسنان به، وبعض الأقراص على منديلٍ ورقي. ما الذى أودى بالرجل إلى «هنا»؟ - تشرب شاى معايا؟ - ......... جَمْد كتمثال، يبدو أنه خرف لا أكثر، البعض هنا فقد ذكرياته أثر زالزهايمرس والرجل فقد عقله، أو أفسده مضادات الذهان الساحقة، بادرته بلطف صناعي، بمنحه كوب الشاي، فلم يعرنى أى اهتمام. -............. حدجنى بنظرة، لا أدرى أين استقرت، وخرقت أى جزء، شعرت أنى مبتل حتى حلقومي، تحشرج صوتي؛ أصدرت سعالًا مأزومًا استعدت به أحبالى الصوتية المرداة. - كنت بتقرأ إيه؟ تطامنت ملامحه، أخرج كتابه المندس فى طيات ردائه وتفحصه جيدًا، أغمض عينيه مفكرًا بتركيز. لوهلة ساد الصمت، ثم فتحهما صوب صورة السيدة بالإطار .. - الإلياذة .. - هااااا ..؟ دى رواية يعني؟! - .......... زم شفتيه، ومسحنى بنظرة شائهة، عاد للتحديق للا شيء، لحظات مستقطعة من الصمت وأنا أفكر بأفضلية احتساء الشاى فى الخارج، ومعاودة رتق الملل، أخرجنى صوته الهادر على مضض.. - ده شعر.. بيحكى قصة مدينة «طروادة» تحمست أكثر.. - ما فيهاش قصة حب؟ - أكبر حب، الوطن،الأم، والحبيبة .. - وزوجة؟ حين بادرته بالسؤال عن الزوجة فى القصة، لمعت عيناه بدمعة متأهبة للسقوط، ثم انزلقت تفاحة آدم البارزة بين الجلد المترهل لرقبته، بدا لى أن ما مرق منها محتجز منذ أبدٍ فى حلقوم العجوز، كبقايا زجاجٍ مر به؛ فرقرق الألم بعينيه والتمع... - الزوجة هى الحبيبة، الوطن، الأم، الابنة. - ............................. هززت رأسى له، استمعت أكثر، ولم أكن وحدي، كانت هناك صورة لامرأة تبتسم له، يبادلها النظرة الباسمة، يمتلئ صدره بشهيق، يزفره امتنانًا خالصًا، يوجهه فى نظرة حانية للغاية إلى «الإطار». أدرك الآن فقط، أن ما وراء الصمت أبلغ من الكلام، أعمق، أكثر مما أطمح فيه بتمضية سويعات الليل بارتشاف الشاى والتسامر. أشَرتُ إليها؛ فأضاء الوجه المنطفئ، تململ قليلًا ثم واصل.. - تلميذة جميلة أحبت أستاذها «المُقعَد».. «وبصوت يملؤه الأسي» حاجة كده زى أفلام العربى هههههههه... حاربِت واتحاربت، عشت وقتا جميلا..«هيلين» لكن أنا ما كنتش زباريسس وبلدنا دى موش «طروادة»! والمرض أَشرَّ من الحرب، والحب صابه الطاعون... - .............................. - كانت تحب تخلط أعواد القرفة مع الشوكولاتة.. طفلة بيسعدها المطر.. وبتعشق الروايح، بتقول الورد فرحة.. الريحان تسامح ..الياسمين تألق...البرتقان حيااااة - .................... أخذ يحكى ويحكى وأنا هائم معهما، متآزر لا شعوريًّا، حكى لى الكهل بالضعف والإخلاص ذاتهما عما ود أن أعرفه، ولم أعد فى حاجة لأن أبتز الكلمات منه، وأستدر الائتناس برفقته، لم تعد هناك أسئلة؛ لأنه لم يتبق سوى سرد منفرد لحكاء ساحر ليلًا، وفى نهاراته كهل ذو وجه وديع نائم. صار كوبا الشاي، ومناوبات الليل لديَّ، جولات معرفية لها شوق يتجاوز آمالى العريضة فى «الختم الفضي» على تأشيرة سفر، أو حتى التعثر بكنز «البيضة الذهبية» لطائر الرُّخ الأسطوري، أو مجافاتى لمهنة أبى الذى أقنعنى بأنها «فن» لا يستطيعه أى من كان أن يبرع بها. أمسى تعطشى للمعرفة كالأرض البائرة للماء، لا ترتوِى إلا بالمزيد والمزيد من حكاياه وكتبه، استمعت له فى ليالٍ كثيرة، لم أحصها، قرأت له، وقرأ عليَّ، جلبت له عددًا لا بأس به من المجلدات والكتب التى نالنى شرف التعارف إليها، منحنى كبْدَ معرفته، ووهبنى فلذاته من العلم، كل ذلك وأنا متقوس بينى وبينه، «أكواب شاي» باردة، وأقراص مهملة وكتبي. فى دراستى الجديدة «علم النفس» التى واصلتها، كنت مثل «دون كوكيستو» المولع بكتب الفروسية؛ فانشغلت عن النوم والطعام بالقراءة؛ فظنوا أننى جننت، ومثل البحار الذى تعقب «موبى ديك» الحوت، الحوت الأبيض لى كان جهلى بالقراءة والمعرفة، كنت هاملت، وانتقمت من عمى الخائن زالجهالةس كنت «بروست» أبحث عن الزمن المفقود مني، وبكيت مع زالولد التائهس وتعاطفت مع «هيمنجواي» فى «الشيخ والبحر» وانتظرت بشوق «هيلين» خاصتى وأنا أعِى جيدًا أنى لست «باريس» الذى تأمله، ولا أعيش بطروادة، وأن معلمى الذى تعثرت به لن يظل لجوارى للأبد، هو منحنى شعلة؛ حين منحته كوبًا من الشاي، وبعض الإصغاء، ومقدارًا من الطاعة، والكثير الكثير من الإيمان به، سعيت إلى تحرري، وجنيت الثمار مع «طاغور» حتى استوعبت تناقضات الحياة عند رجلٍ أراد تمضية ليله والتسرية، باحتساء كوب من الشاي، فأمسك مقود الغرفة السحرية؛ فأفضى رواقها إلى باحة اليقين، وبات موقنًا أن من ينظر فى عمق عينيه سيتعثر حتمًا بالضوء، ويسترشد بوميضها.