وقفت تنظر للكتب التائهة فوق الأرفف المتهالكة تبحث عن كتاب لم تقرأه من قبل ، و لكنها نفس الكتب الباهتة، قرأتها كلها، تعرفها صفحة صفحة, كلمة كلمة ... و ما الجديد فوق الأرفف القديمة؟ ... لا بأس، فهى تعشق تلك الأوراق الصفراء بلون رمال الصحراء الواسعة, تعشق حياة عاشتها فوق الصفحات ... تعشقه ... هل رأته؟ ألف مرة رأته يذيب بنظرة من عينيه جدران الأوراق ... يخرج من بين الكلمات ... يرمح بجواده فوق رمالها ... يقبض- بيد خضبها لهيب شمس ساطعة لا تغيب- على سيفه و يرخى بالأخرى اللجام ليرمح ... يلمع السيف فتلمع عيناها المبهورتان ... تعرفه؟ كما لم تعرف أحدا من قبل ... تعرفه نجما يهدى الصحراء فى رحلتها الطويلة ... تعرفه حصن الضعيف فى عالم بلا قلب ... تعرفه وطن الغريب فى عالم موصد الأبواب ... تعرفه يدا لا تعرف السكون و لا الارتعاد ... عينا لا تعرف السجود تحت الأقدام تطؤها ... قلبا لا يرتعد فتهرب الدماء ... قلبا لا ينبض بالماء ... كلمة تعرف طريقها فى الهواء طليقة لا تعرف الأوراق و الألوان و الكتمان ... كم تمنت أن تملك سره, أن تأخذ من قوته لتهرب من سجنها ... لتخرق حاجز الأوراق بينهما ليلتقيا ... لتحيا حياته, فحياتها ليست لها ... أو حتى لتذوب كلمة فوق الورقة الصفراء ... تذوب فوق الرمال ... تنبت وردة هناك ... يقطفها لتصبح عطر حياته ... و لكنها أبدا لن تستطيع ... من هي؟ من قبلها تحدى الأقدار فانحنت له أو حتى حنت عليه؟ و هو يأبى أن يغمد سيفه, أن يترك جواده, أن ينزل من عالمه ليلتقيا بعيدا عن الأوراق الصفراء ... ليتها ما عرفت طريق الأرفف و الكتب, ليتها ما رأت أسوار سجنها فتمنت الفرار ... ليتها ما عرفته ... تخرج إلى الهواء لعل أنفاسه الباردة تخرجها من حلمها الحقيقة ... تمشى وسط الزحام ... حتى الهواء يأتى منهكا مثقلا ... تلك العطوركانت تحبها, تفرح بها حين تقتحمها , بل و تحبس أنفاسها حتى لا تهرب ... كان العطر لها حياة مترفة صاخبة ... رسالة تؤكد لها أنها هنا و أنه هنا, قريب, معها على أرض واحدة لا يرمح فوق سحابات الأحلام ... ولكنها الآن تكره تلك العطور ... تذكرها بأن للعطور أجسادا تحملها, و بأنها جسد ثقيل يمشى خطواته الصغيرة فوق الطريق الرمادى العتيق الذى يمزج كل العطور فيخنقها ... ثم أين هى من فارسها الذى لا مكان للعطر فى صحرائه الواسعة و تحت سمائه الرحبة, وهو وحده يرمح فوق جواده فى عالم بلا حدود يصنعها العطر. تدرك زيف العطور كلما نظرت حولها ... كلما اشتد الزحام ... من حولها؟ من أصحاب العطور؟ لا أحد ... فشوارع المدينة تسكنها الأشباح ... إلا فارسها, ما زال يطير بجواده فيطيح برأسها ويعصف بها و تفر من أمامه الأشباح إلى قبورها ... ماذا تفعل و هى تعيش الموت بين الأشباح ويعيش فارسها الحياة كل الحياة خلف جدران الزمان و المكان؟ أيهما تختار: عطر الأشباح أم ظل الفارس؟ تقف عند زجاجة العطر ... ماذا تبقى لها فى زجاجة ... تفتحها ... لم يعد لعطر الأشباح رائحة ... تسكب العطر. تعود إلى الأرفف المتهالكة. تقرأ فى كتبها الباهتة. تسكب دموعها فوق الأوراق الصفراء: عطراً ...عطرها ... عطر فارسها ...