بمناسبة زيارة الرئيس الصينى لمصر وتبنيه مشروع طريق الحرير للتمنية الاقتصادية والثقافية كمشروع تنموى عملاق يصنع المستقبل.يطيب لنا ان نذكر القارئ بالقيمة التاريخية لهذا الطريق.فقد اعتاد البشر منذ القدم على الترحال من مكان إلى آخر وإقامة علاقات تجارية مع من جاورهم من الأقوام متبادلين السلع والمهارات والأفكار. فشُقت فى المنطقة الأوروبية الآسيوية وتحديدا من الصين على مر التاريخ طرق للمواصلات ودروب للتجارة تشابكت وترابطت مع الوقت لتشكل ما يُعرف اليوم بتسمية “طرق الحرير”؛ وهى طرق برية وبحرية تبادل عبرها الناس من كل أصقاع العالم الحرير وغيره الكثير من السلع. وتُعتبر الطرق البحرية جزءاً لا يستهان به من هذه الشبكة فمثّلت حلقة وصل ربطت الشرق بالغرب عن طريق البحر واستُخدمت على الأخص لتجارة التوابل بحيث بات اسمها الشائع “طرق التوابل” وكذلك لتجارة البذور والخضار والفواكه وجلود الحيوانات والأدوات والمشغولات الخشبية والمعدنية والقطع الدينية والفنية والأحجار الكريمة وغيرها الكثير. ولم تحمل هذه الشبكات الواسعة فى طياتها السلع والبضائع الثمينة فحسب وإنما أتاحت أيضاً تناقل المعارف والأفكار والثقافات والمعتقدات بفضل حركة الشعوب المستمرة واختلاطهم المتواصل مما أثر تأثيراً عميقاً فى تاريخ شعوب المنطقة الأوروبية الآسيوية وحضاراتهم وكذلك العربية. حدث تلاقح فكرى وثقافى ضخمين ايضا فى المدن المحاذية لهذه الطرق حتى أن العديد من هذه المدن تحوّلت إلى مراكز للثقافة والتعلم. وشهدت المجتمعات القاطنة على امتداد هذه الطرق تبادلاً وانتشاراً للعلوم والفنون والأدب ناهيك عن الحرف اليدوية والأدوات التقنية،و ازدهرت فيها اللغات والأديان والثقافات وتمازجت. وتزايد الإقبال على طرق الحرير وتوافد المسافرون عليها طوال القرون الوسطى، وقد بقيت تُستخدم حتى القرن التاسع عشر مما يشهد ليس على جدواها فحسب وإنما على لدانتها وتكيفها مع متطلبات المجتمع المتغيرة أيضاً. كما لم تقتصر هذه الدروب التجارية على خط واحد - فكان أمام التجار خيارات عديدة من الطرق المختلفة المتوغلة فى مناطق متعددة من أوروبا الشرقية والشرق الأوسط وآسيا الوسطى والشرق الأقصى، ناهيك عن الطرق البحرية حيث كانت تُنقل البضائع من الصين وجنوب شرقى آسيا عن طريق البحر الهندى باتجاه أفريقيا والهند والشرق الأدنى.ويتوغل تاريخ هذه الطرق البحرية فى العلاقات التى قامت قبل آلاف السنين بين شبه الجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين وحضارة وادى الهندوس. وتوسّعت هذه الشبكة فى مطلع القرون الوسطى إذ شقّ بحارة شبه الجزيرة العربية مسالك تجارية جديدة عبر بحر العرب وداخل المحيط الهندي. فقد ارتبطت فى واقع الأمر شبه الجزيرة العربية والصين بعلاقات تجارية بحرية منذ القرن الثامن ميلادي. وتيسّر مع الوقت ركوب البحر لمسافات طويلة بفضل الإنجازات التقنية التى تحققت فى علم الملاحة والعلوم الفلكية وتقنيات بناء البواخر مجتمعةً. ونمت مدن ساحلية مفعمة بالحياة حول الموانئ المحاذية لهذه الطرق التى كانت تستقطب أعداداً غفيرة من الزوار على غرار زنزبار والإسكندرية ومسقط وجوا، وأضحت هذه المدن مراكز غنية لتبادل السلع والأفكار واللغات والمعتقدات مع الأسواق الكبرى وجموع التجار والبحارة الذين كانوا يتبدلون باستمرار.ولعل الإرث الأكثر دواما الذى تركته طرق الحرير هو دورها فى تلاقى الثقافات. فقد اضطر التجار على أرض الواقع إلى تعلم لغات وتقاليد البلدان التى سافروا عبرها كى ينجحوا فى عقد مفاوضاتهم. وشهدت هذه الطرق تبادلاً للمعارف العلمية والفنية والأدبية فضلاً عن الحرف اليدوية والأدوات التقنية، فما لبثت أن ازدهرت اللغات والأديان والثقافات وتمازجت. ومن أبرز الإنجازات التقنية التى خرجت من طرق الحرير إلى العالم تقنية صناعة الورق وتطوّر تقنية الصحافة المطبوعة. كما تتصف أنظمة الرى المنتشرة فى آسيا الوسطى بخصائص عُممت بفضل المسافرين الذين لم يحملوا معارفهم الثقافية فحسب وإنما تشرّبوا معارف المجتمعات التى نزلوا فيها أيضاً. الطرق كذلك دور أساسي فى نشر الأديان فى المنطقة الأوروبية الآسيوية. وتعدّ البوذية خير مثال على هذه الأديان التى ارتحلت على طرق الحرير إذ عُثر على قطع فنية ومزارات بوذية فى مواقع بعيدة عن بعضها مثل باميان فى أفغانستان وجبل وتاى فى الصين وبوروبودور فى إندونيسيا. وانتشر الدين المسيحى والإسلام والهندوسية والزرادشتية والمانوية بالطريقة ذاتها فقد تشرّب المسافرون الثقافات التى صادفوها وعادوا بها إلى مواطنهم. ودخلت مثلاً الهندوسية ومن ثم الإسلام إلى إندونيسيا وماليزيا عن طريق تجار طرق الحرير الذى ساروا فى المسالك التجارية البحرية للهند وشبه الجزيرة العربية. فى القرن التاسع عشر. و تردد نوع جديد من المسافرين على طرق الحرير هم: علماء الآثار والجغرافيا والمستكشفون. وتوافد هؤلاء الباحثون من فرنسا وإنجلترا وألمانيا وروسيا واليابان وأخذوا يجتازون صحراء تكلماكان فى غرب الصين، تحديداً فى منطقة تعرف الآن باسم شينجيانج، قاصدين استكشاف المواقع الأثرية القديمة المنتشرة على طول طرق الحرير، مما أدى إلى اكتشاف العديد من الآثار وإعداد الكثير من الدراسات الأكاديمية والأهم من ذلك أن هذا الأمر أدى إلى إحياء الاهتمام بتاريخ هذه الطرق.وما زال العديد من المبانى والآثار التاريخية قائمة حتى يومنا هذا، راسمة ملامح طرق الحرير عبر خانات القوافل والموانى والمدن. لمزيد من مقالات احمد عاطف