الأوركسترا حبيب ينبغي ألا تأخذه بالحضن, بل تقف منه موقف الحشم من الملوك.. يحيي حقي الموسيقي.. ذلك الغموض الذي تحول إلي علم, مازالت قابعة في عليائها متلفعة بغموضها ومستعصية علي الفهم والشرح. ويكاد يكون التسليم بمعان لفظية أو تفسيرات أدبية لوصف عمل موسيقي ما من الأمور شبه المستحيلة. ومازال كثير من النقاد ينادون بأن سبب ابتعاد الكثيرين عن طبيعة الموسيقي الحقة, وعن التنوع اللانهائي في النبرات العاطفية التي تتيحها لنا, هو وصف الموسيقي بالكلمات, وهم في ذلك يتخذون موقفا مغايرا للموسيقي العالمي فرانتس ليست, الذي نادي بضرورة دمج الموسيقي بالشعر والأدب والفنون التشكيلية, فيما أطلق عليه القصيد السيمفوني, إلا أن هناك استثناءات, فمنذ مولد علم الموسيقولوجيا في أواخر القرن الثامن عشر, أخذ المؤرخون الموسيقيون ينبشون في سير حياة جهابذة الموسيقيين, ويصفون إنجازاتهم بالكلمات, ومما لاشك فيه أنه كان بينهم من يمتلك ذائقة الكلم وهو يطري تلك المؤلفات, فأخذت النصوص الأدبية التي تحوم حول الموسيقي في الإنتشار. ورأينا رومان رولان يعمد الكلام عن لحن الفرح الشهيرandiefreude, في الحركة الرابعة من سيمفونية بيتهوفن التاسعة المعروفة بالكورالية قائلا.. يمشي مشية الجحافل يصرع في طريقه الآلام..!! .......................... كان ذلك التمهيد لتعريف القاريء بأن هناك استثناءات لما ذكرته من استعصاء الموسيقي علي الشرح والتفسير, فعندنا يمثل يحيي حقي ذلك الاستثناء علي خير وجه,( وربما أضفنا له الدكتور حسين فوزي.إلا أن يحيي حقي قد بز كل من وصف الموسيقي بالكلمات, متخطيا الحاجز اللغوي في رشاقة مثيرة للإعجاب. واستطاع ببساطة أسلوبية مدهشة, أن يضع الرجل العادي وجها لوجه أمام عالم الأوركسترا الزاخر,, ليشاركه الدهشة بذلك الزخم الصوتي, فيترك نفسه للموسيقي, لكي تبحر به نحو المجهول, في طيات العقل اللاواعي أحيانا, وأحيانا أخري نحو مغامرات للعقل الواعي عندما يصطدم مع الواقع, فلايكون هناك مناص من إطلاق كوامن الخيال. قد ينتاب بعضنا من قراء يحيي حقي الدهشة, وهو يطالع ذلك الكتاب الشيق تعال معي إلي الكونسير, من بين كتبه الأدبية الأخري والغارقة في واقعيتها المصرية الإجتماعية, فالكتاب أراد أن يلفت به أنظار متذوق الموسيقي الجاد, والذي يتحسس طريقه نحو الموسيقي الكلاسيكية, وسط ركام مصطلحاتها, وصيغها المعقدة. إلا أنه يمكن القول أنه حبب الكثيرين من القاعدة العريضة لمتذوقي الموسيقي الجادة, في ذلك الفن وهو الموسيقي الكلاسيكية, والتي مازالت حتي الآن تتحسس طريقها نحو أفئدتنا في وجل. وقد يعتقد القارئ العادي أن يحيي حقي كان كاتبا غارقا في هموم المكان والضغوط الإجتماعية التي تسحق الفقراء بين فكي الجهل والخرافة, أما القارئ الواعي, والذي يغوص بين طيات النص لإستجلاء غموضه, وبنيته السردية وعلاقتها بالمكان والزمان, فسيدرك أن المكان عند يحيي حقي ليس تصورا هندسيا ثلاثي الأبعاد يموج بالتفاصيل المملة, بل هو مشهد لمدركات حسية, تتشابك فيه العلاقات والوقائع, وكأنه مجال حيوي ممتد في الزمان, له أبعاده التاريخية والإجتماعية..إذن فالمكان عنده كل متصل( زمكان), تتحرك فيه المخلوقات بحيوية دافقة, وتتفاعل وتتصارع. وإذن فنحن عندما نقرأ حقي, لابد أن تتبدي أمامنا علي الفور ما يقال له الكيفية الموسيقية للعمل, وهي ذلك الإحساس بالتناسق والتوافق, والذي نستشعره في أي فن من الفنون قبل أن ندرك فحوي المنتج الفني نفسه. وعندما يأخذنا حقي معه في رحلته, يجد القارئ نفسه وكأنه بصدد تجربة موسيقية علي الورق,... فهل كان يحيي حقي في معظم كتاباته يحاول التعبير عن الموسيقي بالألفاظ..؟. وعندما نقرأ أيضا الكتابات النقدية حول الفن التشكيلي لذلك الأديب مرهف الحس, نجده يغوص عميقا وراء أسرار العمل والفنان نفسه. والواقع أن ذلك هو سر الحيوية المتألقة لأسلوبه السردي الوصفي, علي نحو لم نعهده في أديب مصري بين المحدثين والقدماء, ومن العجيب أن تشبيهاته البليغة واستعاراته تأتيه طوعا وعلي نحو مدهش بتلقائية فريدة لتمكنه الفائق من زمام الفصحي والعامية معا.. وهكذا تنساب الجمل والتعبيرات لديه وكأنها خطوط لحنية, تتخذ صورة الألحان, وأحيانا ماتتبدي كضربات فرشاة سريعة, ولكنها محملة بمشاعر جياشة. كان يحيي حقي مأمورا بقنصلية مصر بروما فيما بين الأعوام1939,1934, وأصبح من مرتادي مسرحها الشهير سانتا تشيشيليا, كما تردد بانتظام علي دار أوبرا باريس( عندما كان سكرترا أول لسفارتنا هناك), حيث اكتسب خبرة واسعة في التذوق الموسيقي, ولماكان ممن امتلكوا قدرات لاحدود لها علي استيعاب التيارات الثقافية بجميع أنواعها, وتمثلها تماما علي نحو لم يفقد معه علي الإطلاق جذوره الشرقية, وفي نفس الوقت كان علي معرفة أكيدة بقصور القدرات التعبيرية لموسيقانا في زمانه, فلم تكن تتعدي التطريب في أغلبها رغم محاولات سيد درويش, فقد أراد أن ينقل تجربته لبني جلدته, كي يتعرفوا علي التجربة الموسيقية الأوروبية, ويدركوا ماشيده الغرب من عمارة موسيقية شامخة علي مدار خمسة قرون منذ عصر النهضة الأوروبية( التي أقيمت علي أشلاء تراثنا المنهوب منذ أن أقام زرياب معهده العالمي في قرطبة بالأندلس في القرن العاشر, وذلك حديث آخر). وكتاب يحيي حقي تعالي معي إلي الكونسير كتاب بسيط يقع في ثماني وسبعين صفحة, ولكن من الصعب علي هاوي الموسيقي الكلاسيكية أن يتركه من يده إلا بعد أن يكون قد أتي عليه من الجلده للجلدة, والتهمه التهاما, لطرافته وخفة دمه التي لاحدود لها, ولاحتوائه علي كم معلومات قيمة ذات فائدة كبري لكل من يحاول ولوج ذلك العالم الشيق في تردد). وأروع مافي الكتاب هو أن حقي لايتقعر ويلجأ لمصطلحات تدخل القارئ في متاهة, مثل كل الكتابات التي سبقته في ذلك المضمار منذ القرن التاسع عشر( وتسببت في هروب الكثيرين), بل عمد إلي استخدام العامية علي سبيل التبسيط مع المزج بسخرية محببة, والمدهش أنه كثيرا مايتخفي في دور من لادراية له بذلك الفن حتي يبعث الثقة في القارئ( بينما هو في واقع الأمر خبير لوذعي لم يترك شاردة أو واردة في موضوعات التذوق الموسيقي إلا وتحدث عنها حديث خبير متمرس..!!) وتلك أحد أسرار عظمة ذلك الرجل. وانظر إلي يحيي حقي, الذي ارتوي من ماء نيله وكان مترعا بحب ناسه في كل ماعبر عنه, وهو يصف مرتادي الكونسير( في أغلبهم) بأنهم من طواويس الثقافة والذوق والكياسة, يريد كل منهم أن يبز الآخرين في نقشة ذيله.., وتأمله وهو يصف دخول أعضاء الأوركسترا فرادي وأزواجا إلي خشبة المسرح قبل بدء الحفل:..كسلسول ماء من صنبور شراب.. يحمل كل منهم آلته حريصا عليها أشد الحرص, إلا الطبل الباص والكونترباص, فقد جئنا لنشهد عازفين لا عتالين..!!.., ثم يقول أن رائد الأوركسترا( عازف الفيولينا الأول) هو بمثابة الألفة في الفصل. و ينهال بسخريته اللاذعة علي البدلة الفراك للمايسترو, ويري أنها من أسخف الأزياء. و في بساطة محببة يشرح كيف يتجمع مرتادي قاعة الكونسير,في عجينة واحدة ولاينسي أن يحذرنا بخفة دمه المعهودة, من أن نقع في مطب التصفيق بين حركات السيمفونية أو الكونشرتو, ويصف السيمفونية بأنها وحدة متماسكة, بل قد يلتحم فيها جزءان بلافاصل. وهنا تبدأ دروس التذوق الموسيقي الواعية التي يدسها يحي حقي للقارئ ليفتح شهيته نحو التطلع إلي خوض تلك التجربة.. فقطع الحركات بالتصفيق معناه طعن السيمفونية بالخناجر وتمزيقها..! ويلخص يحيي حقي في إيجاز مدهش قضية الصراع الأزلي بين القديم والحديث, وكيف ينظر أنصار الموسيقي الكلاسيكية إلي أعمال المؤلفين المحدثين,. إلا أنه يواسي من يحاولون باستماتة تذوق الموسيقي الحديثة( منذ سترافنسكي وبارتوك وهيندميت ومن تبعهم), ويبدي رأيا وجيها تماما في تلك الموسيقي التي لم تنجح في أن تجد لها مكانا راسخا بين القاعدة العريضة من محبي الموسيقي الرفيعة حتي الآن, ولعله يلخص بمهارة واقتدار قضية النهل من التراث القومي( فالموسيقي الحديثة برمتها كانت عودة إلي الجذور والتراث الشعبي) ويهبط بنا ذلك المصري حتي النخاع إلي الأرض في رفق, بعد أن اصطحبنا معه في رحلته العلوية..ويحيي حقي يمتلك جناحين يحلق بهما في سماوات النغم الجميل ولكنه راسخ الجذور في تربة بلده..وهاهو لايتركنا بعد تلك الجولة في ربوع الحضارة الغربية دون أن يصطحبنا معه إلي قهوته المفضلة في روما, وكأنه علي رصيف قهوته المحببة في القاهرة, التي يعشقها بكل ما فيها من خرافات وشعوذة وآلام مطحونيها وطيبة وشهامة ناسها..ويصف لنا عازف كمان طلياني أشيب وقور, وهو متسول هده الدهر, يعزف له الأغنية النابوليتانية أو صولو ميا مي!!:.. هل الكمان أهتم أم حبال حنجرته مصابة ببحة..!؟ أم استعارت تلك الكمنجة أوتارها من عازف ربابة علي دكة مقهي علي شط ترعة...؟...ولكن ماقولك أن صوتها, بعجره وبجره, كان ينفذ إلي قلبي, كأنما يروي لي قصة أوجاع طويلة..هذا السائل تجده في كل العواصم حتي القاهرة... وهكذا ينقلنا يحي حقي بلمسة رقيقة, وفي نوستالجية صادقة إلي أجواء القاهرة الساحرة في طرفة عين.....سلام عليه في أعلي عليين.