طائرة روسية كانت تستهدف مباشرة مسلحين في مناطق تركمانية يقطنها من تعتبرهم تركيا جزءًا منها، يتم اسقاطها بواسطة طائرات «إف 16» الأمريكية التابعة لسلاح الطيران التركي، قبل ان يتم تدمير طائرة مروحية روسية أخرى هبطت على الأرض خلال عملية البحث عن ملاح الطائرة الأولى الهارب، بسلاح أمريكي أيضا: قذائف تي إيه دبليو (تاو) المضادة للدبابات. يلخص هذان المشهدان من دون تسطيح حربا بالوكالة كانت تدور طوال خمسة أعوام على الأراضي السورية، لكنها تبدو الآن في طور التحول شيئا فشيئا إلى حرب مباشرة بين أطراف كانت تكتفي في السابق بدعم أحد المعسكرين المتحاربين واختارت مؤخرا بشكل تبدو دوافعه مفهومة التوغل بقواتها وأسلحتها مباشرة في القتال. لكن ما لا يبدو مفهوما هو، كما يردد الروس، أن تركيا بدت وكأنها قد نصبت كمينا للطائرة الروسية التي اسقطتها قبل قرابة الأسبوعين. في كل حالات اختراق الأجواء عادة ما يكتفي المطاردون بتحذير الطيار الدخيل شفويا، ثم يتم إطلاق بضع طلقات تحذيرية، وإن لم يبد استعدادا للانصياع يجد هذا الطيار الدخيل نفسه مجبراً على الهبوط ويقع قيد التحفظ داخل البلد الذي اخترق مجاله الجوي. لكن اتخاذ الأتراك القرار بإسقاط الطائرة الروسية، وحدوث ذلك خلال مدة لم تتجاوز 17 ثانية فقط يشي بأنهم كانوا في الواقع ينتظرون بفارغ الصبر عبور إحدى الطائرات الروسية. في عام 2012 أسقط السوريون طائرة عسكرية تركية اخترقت المجال الجوي لبلادهم، ووقتها أعلن أردوغان غاضبا إن «دخول طائرة إلى الأجواء السورية لفترة قصيرة لا يمكن أن يكون ذريعة من أجل إسقاطها». تتكشف هذه التناقضات في الواقع عن رسالة قاسية أراد الأتراك، ومعهم حلف الناتو، إيصالها للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ورغم ذلك يعرف الغرب أن هذه الحادثة لا يجب ان تتخطى حجم الأزمة العابرة. يترجم هذا التوجه ببساطة في تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المسترسلة في استرضاء الروس ومحاولة اتقاء عواقب اغضابهم، بينما يفهم بوتين من جهته أيضا أنه، ورغم اعتقاده بوقوعه ضحية هذه المرة، ليس مستعدا الآن للدخول في أي صراع عسكري يكون الناتو فيه هو الطرف المقابل. إذن لم يعد أمام بوتين إلا التصرف بنفس الطريقة الخطابية، التي لم تخل أحيانا من بعض الإجراءات العقابية، التي تعاطى بها أردوغان مع حادثة الطائرة التركية المستهدفة في سوريا. العالم يجد نفسه إذن أمام تجل واضح لزعيمين متشابهين إلى حد أن أحدهما سيرى الآخر إذا نظر في المرآة. فأنقرة تتجاهل عن عمد قصف مواقع تنظيم داعش في سوريا، وفي المقابل تستهدف قوات كردية تبدو الأكثر فعالية على الأرض في مواجهة التنظيم. وبدلا من حصارهم، تسمح حكومة أردوغان بتهريب الأسلحة والمقاتلين إلى جماعات يبدو مازحا من يحاول اخفاء طبيعتها الجهادية المتشددة. نفس الخيارات أقدم عليها بوتين من قبل في أوكرانيا، وحول على اثرها مدن دونتسك وسباستبول ولوغانسك وغيرها إلى نماذج قريبة من حمص وحلب وإدلب في سوريا. وإذا وصل التشابه في الظروف والمسببات وحتى شخصية الدول إلى حد تكرار التاريخ مرة أخرى، فحتما سيتكرر التاريخ. يبدو أن الحنق الدفين في نفسي بوتين وأردوغان تجاه أحدهما الآخر يدور حول مصالح كلا البلدين في سوريا، لكنه في نفس الوقت ليس إلا فصلا جديدا من فصول الصراع بين روسيا التي كانت قيصرية، والدولة العثمانية التي أصبحت تركيا. لا يريد أحد لذلك أن يحدث، ومن ثم فإن جهودا قاسية ستبذل من أجل أن يظل الاحتقان جزءا من الالتباس الذي يشكل علاقة التنافس بين الجانبين، دون ان يعيد التاريخ نفسه. يشاهد الرئيس السوري بشار الأسد هذه المعارك الضارية التي تدور رحاها على أرضه بينما يبدو سعيدا. ويدرك الأسد أن تركيا منحت روسيا من دون أن تدري حجة كي تصبح أكثر تشددا وعنادا في تفسير رؤيتها لمستقبل الأسد، وان تذهب أبعد من ذلك في معاداة خصومه ووصفهم لأول مرة بداعمي الارهاب. لكن لا يبدو هنا أن الأسد وحده من سيحصل على وجبة مجانية. أعطى اسقاط الطائرة الروسية الأتراك أيضا حجة ثمينة كانوا في انتظارها طويلا لوقف مشاركتهم في الضربات الجوية التي ينفذها تحالف دولي بقيادة الولاياتالمتحدة على مواقع داعش في سوريا، إذ يأمل أردوغان في تعليل ذلك بالخشية من منظومة الصواريخ الدفاعية التي بدأت روسيا الجريحة في نشرها على الجهة المقابلة لحدود بلاده مع سوريا. تريد تركيا أيضا أن تجر الناتو في صراع، وإن بقي داخل إطاره السياسي، مع روسيا قد يجبر الغرب على الإسراع من وتيرة البحث عن حل عاجل للأزمة السورية قبل أن تتحول إلى حرب أوسع، على أن يحدث ذلك بمعزل عن الصراع في أوكرانيا الذي يسعى بوتين جاهدا إلى ربطه عضويا بالملف السوري وايجاد لكليهما حل مشترك ضمن تسوية أوسع بين موسكو والغرب تشملهما معا. ستمر الأزمة الحالية على الأرجح لأن العالم يدرك أن تكلفة اختفاء البسمات المصطنعة على وجوه الزعماء خلال اللقاءات الدولية حول سوريا مكلفة للغاية، لكنها لن تمر من دون أن يتعلم جميع هؤلاء الزعماء أن قذائف (تاو) الأمريكية والطائرات المروحية الروسية من الممكن ان تتواجد معا على الأراضي السورية، لكن من دون السماح مرة أخرى باصطدامها.. مهما حدث. لمزيد من مقالات أحمد أبودوح