متأخرا جدا، انتفض الغرب على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد أن طاله السم الأسود الذى تنشره الجماعات الإرهابية، وعلى رأسها داعش، وبخاصة بعد أن تبين أن هذه المواقع ولا تزال رأس الحربة الحقيقى لعمل هذه الجماعات والتنظيمات. فمنذ سنوات، استخدمت الجماعات الإرهابية موقع فيسبوك تحديدا فى تجنيد العديد من عناصرها، وبخاصة فى الدول الغربية، وأيضا فى بث الدعاية المضادة، ونشر تسجيلات القتل والذبح وصور احتجاز الرهائن، مستغلة فى ذلك مناخ الحرية المطلق الذى حافظت عليه إدارة الموقع لسنوات طويلة، مما جعل من الصعب على الحكومات إخضاع الموقع ومحتواه لأى سيطرة. ولكن، وبعد أن تبين حجم خطورة استخدامات داعش وغيرها لموقع فيسبوك، وبعد الدور الذى لعبه الموقع فى زعزعة استقرار الدول، وبخاصة فى موجة "الربيع العربي"، بدأت الحكومات المختلفة تسعى جاهدة، وعلى رأسها الدول المتقدمة، إلى فرض سيطرتها على الإنترنت بصفة عامة، من خلال حجب بعض المواقع أو التجسس على حسابات مستخدمى مواقع التواصل الاجتماعى والحصول على بياناتهم، وأول هذه المواقع فيسبوك بطبيعة الحال. وعلى مدى السنتين الماضيتين، قدمت العديد من الحكومات طلبات إلى الشركات المالكة لمواقع التواصل الاجتماعى للكشف عن سرية حسابات بعض عملائها، وأحيانا لحذف بعض المحتوى الذى يوصف بأنه محظور أو تحريضي، وعلى الرغم من أن معظم إدارات هذه المواقع، وعلى الأخص شركة "فيسبوك"، قابلت هذه الطلبات بالرفض فى البداية، حتى لا تفقد عملائها من مستخدمى الموقع، إلا أن دوافع الأمن القومى للدول كانت أقوى، وبخاصة مع تنامى ظاهرة تجنيد المقاتلين الأجانب تحديدا. وباستخدام وسائل الضغط المباشرة وغير المباشرة، خضعت شركة "فيسبوك" فى النهاية إلى مطالب الحكومات، والتى جاءت على رأسها الحكومة الأمريكية التى تعرف جيدا كيف تدافع عن أمنها القومى بإجراءات استثنائية، دون مراعاة لمباديء الحريات العامة أو الخاصة أو حقوق الإنسان، مكتفية بمطالبة الدول الأخرى بالالتزام بها. وفى أحدث تقرير لها، أعلنت شركة "فيسبوك" أن الطلبات الحكومية الخاصة بالإفصاح عن معلومات خاصة بمستخدمى الموقع فى تزايد كبير. ويقول التقرير إن الطلبات الحكومية بهذا الخصوص ارتفعت إلى 41 ألف طلب فى 2015، مقارنة ب35 ألف طلب فى 2014. وتوضح الشركة أن الجزء الأكبر من تلك الطلبات جاء من أجهزة الأمن الأمريكية التى طلبت بيانات 26٫579 حسابا فى 2015، أى ما يعادل أكثر من 60٪ من طلبات الحكومات على مستوى العالم، بزيادة تقدر بستة الآف حساب عن العام السابق. وتضيف الشركة أن كلا من فرنساوألمانيا وبريطانيا شكلت أيضا نسبة كبيرة من تلك الطلبات، رغم كونها دولا ليبرالية متقدمة، فقد كانت من بين أكثر الدول التى حظرت محتويات معينة على فيسبوك فى 2015. فمثلا، بعض المحتويات التى تم مسحها من على الموقع فى ألمانيا كان له علاقة بإنكار محارق النازية لليهود "الهولوكوست". ويشير التقرير أيضا إلى أن الهندوتركيا مسئولان عن أكبر نسبة مسح للمحتويات على فيسبوك بدعوى خرق تلك المحتويات للقوانين المحلية، ففى الهند تم حظر 155 ألف مادة محتوى، فى حين حظرت تركيا 496 ألف مادة. وتوضح شركة "فيسبوك" أن الحكومات عادة ما تطلب المعلومات الأساسية عن المشتركين ومحتويات حساباتهم، بما فى ذلك ما ينشرونه من تدوينات أو "بوستات" على الموقع، الذى زاد عدد مستخدميه إلى 1٫55 مليار شخص مقارنة ب1٫4 مليار فى النصف الثانى من العام الماضي. وبجانب فيسبوك، تمكنت روسيا من حجب نحو 450 موقعا على الإنترنت كانت مخصصة لجمع الموارد المالية للمجموعات الإرهابية فى سوريا والعراق، بالإضافة إلى إغلاق أكثر من 350 موقعا لتجنيد شباب، كما نجحت فى إزالة أكثر من 4500 إعلان متطرف من على صفحات ومواقع الإنترنت. وعلى الرغم من ذلك، نجد من الغريب أن هناك بعض الدول والحكومات التى لا تود الاعتراف حتى الآن بحجم "المصائب" التى تسبب فيها الفيسبوك، وتود أن يواصل عمله بلا حسيب ولا رقيب، ومن تلك الدول مثلا بلجيكا، والتى أصدر قضاؤها حكما مؤخرا يلزم موقع التواصل الاجتماعى "فيسبوك" بالتوقف فوراً عن مراقبة مستخدميه ومعالجة معلوماتهم دون موافقتهم. وقد أمهلت المحكمة المدنية فى بروكسل شركة "فيسبوك" 48 ساعة لكى تنفذ القرار، وإلا سيجرى تغريمها مبلغ 250 ألف يورو عن كل يوم تأخير، وذلك فى محاولة للحفاظ على سرية حسابات مستخدمى الموقع! والأغرب من ذلك، ما تردد عن أن الإرهابيين أنفسهم بدأوا يدركون أنهم محاصرون ومراقبون على مواقع التواصل الاجتماعي، ولذلك بدأوا فى البحث عن وسائل غير تقليدية فى التواصل، ومن ذلك ما قيل مؤخرا عن أن منفذى هجمات باريس تواصلوا مع بعضهم البعض عبر شاشات الحوار الخاصة بألعاب "بلاى ستيشن" غير الخاضعة للمراقبة الأمنية! وعلى الرغم من أن هذه المعلومة لم يتم التيقن منها بعد، فإنها فى حالة تأكيدها، ستكون دليلا ربما على أن موضوع رقابة الفيسبوك عفى عليه الزمن، ولم يعد الحديث فيه إلا من قبيل الحديث فى الماضي!