يكتبه: محمد عيسي الشرقاوي عندما فازت بجائزة نوبل للأدب عام1991, قالت نادين جورديمير: هذه هي المرة الثانية التي تغمرني فيها نشوة الحياة وأفراحها, في خلال عامين, وكانت المرة الأولي يوم إطلاق سراح نيلسون مانديلا عام.1990 وكان مانديلا قد أمضي سبعة وعشرين عاما في سجن جزيرة روبن العنصري سييء السمعة, بتهمة النضال من أجل تحرير جنوب إفريقيا من نظام الأقلية العنصرية البيضاء. وأوضحت الروائية الجنوب إفريقية نادين, أن حرية مانديلا وجائزة نوبل رمزان يمثلان جوهر حياتي. وكانت نادين فيما قالت تعبر بصدق عن مسار حياتها ومقاصدها كإنسانة وكاتبة, فقد امتزجت أيامها امتزاجا عميقا بحركة التحرر الوطني في جنوب إفريقيا, التي استهدفت منذ تأسيس حزب المؤتمر الوطني الإفريقي عام1912, إنهاء الحكم العنصري, وتحرير البلاد من ممارسته القمعية. وحتي نتفهم موقع نادين في حركة التحرر المناهضة للعنصرية, لابد من الإشارة إلي أن بشرتها بيضاء, وكانت تنسب الي الأقلية البيضاء, لكنها تمردت عليها, وانتمت بالوعي المستنير سياسيا وفكريا الي كوكبة الليبراليين البيض, الذين كانوا يتصدون ببسالة للحكم العنصري, وانضموا زرافات ووجدانا الي عنصرية حزب المؤتمر الإفريقي, وانصهروا في بوتقته النضالية. وهنا, لابد من تأكيد مسألة بالغة الأهمية والدلالة, وهي أن حزب المؤتمر الإفريقي لم يكن حزبا مغلقا للافارقة فقط, وانما كانت أبوابه مفتوحة لكل المناهضين والمناضلين ضد العنصرية سواء كانوا من السود أو البيض أو الملونين( الهنود). ولذلك كان الحزب يضم في قياداته وصفوفه كل القوي السياسية الوطنية والليبرالية والشيوعية, وكان نيلسون مانديلا ورفاقه يبلورون أبعاد كون الحزب حركة تحرر وطنيا واسعة ورحبة, ولعل هذا أحد الأسباب الجوهرية في استمراره وصموده, برغم الضربات العنصرية المتلاحقة, وبرغم سجن قياداته, وفي مقدمتهم مانديلا. وفي أجواء حركة التحرر الوطني هذه, شبت نادين جورديمير وتألق وعيها, وأصبحت كاتبة وروائية مرموقة منذ نشرت مجموعتها القصصية الأولي وجها لوجه عام1949, وكانت آنذاك في السادسة والعشرين من عمرها. ولم تكف منذ ذلك الحين عن الابداع الأدبي, وليس أدل علي ذلك من أنها نشرت مؤخرا رواية بعنوان لا وقت مثل الحاضر, وهي ترصد فيها المشكلات التي برزت علي أرض الواقع منذ تولي الافارقة السلطة في جنوب افريقيا في أعقاب الانتخابات العامة عام.1994 وأبطال هذه الرواية الجديدة كانوا من الشخصيات التي خاضت غمار النضال السياسي ضد نظام الأقلية العنصرية البيضاء وتكشف نادين انعكاسات الأوضاع الراهنة علي هذه الشخصيات, وهي من السود والبيض. وما يتعين ذكره, في هذا السياق, أن نادين قد اهتمت مبكرا بمحاولة استكشاف فترة ما بعد تحرر جنوب إفريقيا من الحكم العنصري, ذلك أنها نشرت عام1994 رواية لا أحد في صحبتي وتدور أحداثها في عام اطلاق سراح مانديلا, وفتح أبواب السجون العنصرية أمام المناضلين. وتطرح في الرواية تصورها للمشكلات المحتمل مواجهتها في الفترة الانتقالية الصعبة, وكانت رؤيتها كاشفة وصائبة الي حد كبير, خاصة عندما أعربت عن خشيتها من تحول بعض المناضلين الي رجال أعمال, وتورطهم في الفساد. {{{ نادين جورديمير تجلت عبقريتها الروائية من فيض إيمانها بحرية الإنسان والحفاظ علي كرامته, أيا ما كان لون بشرته أو عقيدته, وكان لأمها تأثير كبير في توجهها النبيل هذا, ذلك أن والدها كان يدور في الفلك المعتم لسياسات الأقلية العنصرية البيضاء, أما أمها فكانت لا تناصب الأغلبية الإفريقية المضطهدة العداء وانما كانت تتعاطف مع السود, وتتمني مثلهم أن يتحرروا من العنصرية. وقد تشكل وعي نادين من خلال حواراتها مع أمها, ولذلك اقتربت من عالم السود, وفطنت الي معاناتهم, ووقفت في نهاية المطاف في خندقهم, ودافعت دفاعا حارا عن قضاياهم. وهكذا أصبحت مناهضة للعنصرية وسلطتها, وتعرضت لمتاعب جمة, فقد صادرت السلطات ثلاثا من رواياتها, وحددت اقامتها فترة من الوقت بين جدران منزلها. وكانت نادين تراقب بقلق بالغ حملات اعتقال أصدقائها, وتوجست خيفة من احتمال اعتقالها, ذلك أنها كانت تساعد الأصدقاء علي الاختباء حتي لا يقعوا في قبضة الشرطة. ولم تكتف بذلك, وانما شاركت في لقاءات واجتماعات سرية مع مناضلين من حزب المؤتمر الإفريقي المحظور نشاطه, وقالت في أحد هذه الاجتماعات التي انعقدت عام1988: لا يكفي بالنسبة للبيض أن يعربوا عن استعدادهم للعيش تحت حكم الأغلبية الإفريقية, وانما يتعين عليهم العمل وبذل الجهد لتحقيق حكم الأغلبية. وكانت قد جاهرت عام1986 بمعارضتها لفرض السلطات العنصرية الرقابة علي مؤلفات ونشاطات منظمة الكتاب, وساهمت في العام التالي في تأسيس مؤتمر كتاب جنوب إفريقيا. وعندما فازت بجائزة نوبل, خصصت جزءا من قيمتها المالية لمساعدة الهيئة الجديدة للفنون والآداب التابعة لحزب المؤتمر الإفريقي, فهي تري أن تشكيل ثقافة جديدة وحرة أمر جوهري لجنوب إفريقيا الجديدة. {{{ نادين كانت وماتزال, وهي تقترب من مشارف التسعين من عمرها, تناضل بالكلمة المضيئة والقدوة الحسنة من أجل حرية الإنسان وإعلاء شأن كرامته, وهنا يتبلور معني الوطن, ويكون الارتباط به عظيما والانتماء إليه لا حدود له, وهذا ما حدث عندما تفاقمت ملاحقة السلطات العنصرية للمناضلين السود والبيض, وعندئذ فكرت نادين في الهرب من جنوب إفريقيا الي زامبيا بحثا عن ملاذ آمن يعصمها من عسف النظام العنصري, لكنها سرعان ما نحت الفكرة العابرة جانبا, وقالت إن الأصدقاء الافارقة في زامبيا كانوا سيعتبرونني أجنبية. وهذا ما لا أطيقه ولا أتحمله. وقبضت نادين علي الجمر, ولم تبرح وطنها, وكان ابداعها الأدبي يتوهج, ويكفي الإشارة الي درتها الروائية ابنة برجر, التي ما ان نشرتها عام1979 حتي صادرتها السلطات العنصرية. وهي رواية تسرد فيها انخراط الطبيب ليونيل برجر في حركة النضال الإفريقية, وعندما تكتشف السلطات ذلك, تبادر باعتقاله, ويلقي حتفه, في ظروف جد غامضة في سجنه. ولم تكن ابنته روز تدرك سر كفاح والدها, وأنه كان ينتمي لليبراليين البيض, وقد فطنت الي ذلك عندما وقعت في هوي شاب من البيض المناهضين للعنصرية, وكان متيما بأفكار والدها, غير أن السلطات اعتقلت هذا الشاب, واضطرت روز للسفر الي بريطانيا وهناك التقت بزميل من فترة صباها, أطلعها علي حقيقة كفاح والدها, وأبدي استياءه من سلبيتها وعدم تقديرها لهذا الكفاح. وكان هذاه ما حرضها علي تغيير شخصيتها.. ومواصلة مسيرة والدها. {{{ وعند هذا الحد, فإن ما ينبغي الالتفات إليه, أن موهبة نادين تكمن في ادراكها الخط الفاصل بين الابداع الروائي والسياسة, اذا صح هذا التعبير. وتفسير ذلك أن رواياتها بالرغم من أن وقائعها وأبطالها تدور في عالم السياسة, إلا أنها تمكنت ببراعة واقتدار من الإفلات من السقوط في أدب الشعارات السياسية, ومن ثم تمكنت من التحليق في فضاء الابداع الجميل والنبيل. لا وقت مثل زمن نادين