ثمة مفترق طرق تواجهه القضية الفلسطينية في المرحلة الراهنة يدفع بها، إما إلي إحداث اختراق في جدار الجمود المهيمن علي مساراتها التفاوضية منذ أكثر من عامين، أو يدخلها في دائرة التوترالذي قد يفجر انتفاضة فلسطينية ثالثة تكون أكثر حدة من انتفاضتي 1988 و2000 بدت نذرها تلوح في الأفق ، ربما تنتهي باجتياح اسرائيلي لمدن الضفة وفقا لتهديدات حكومة بنيامين نيتانياهو، مما يعيد الأوضاع في فلسطين الي مربع شديد الخطورة، الأمر الذي يحاول الجانبان :السلطة الوطنية وسلطات الاحتلال تجنبه بشكل أوبآخر لفرط كلفته وعبئه السياسي والاقتصادي والأمني عليهما، بيد أن الممارسات العدوانية لهذه السلطات التي تقدم الإسناد اللوجستي بكل أنماطه، لقطعان المستوطنين في اقتحاماتهم اليومية للمسجد الأقصي -قدس أقداس فلسطين والاستمرار في المشروع التهويدي للقدس المصحوب بالاعتداءات علي سكانها العرب، وطردهم من منازلهم وإحلال المستوطنين اليهود محلهم فيها، و تبني منهجية الاستخدام المفرط للقوة - وفق تعبير المتحدث الرسمي باسم الخارجية الأمريكية يوم الأربعاء الماضي - ضد مختلف فئات الشعب الفلسطيني، بما في ذلك الأطفال وفرض كل أنواع الحصار عليه من خلال تكثيف الحواجز الأمنية التي تطبق أسوأ الإجراءات المشددة وأشدها بشاعة في العالم ،دفعت الرئيس الفلسطيني محمود عباس أبو مازن- الي محاولة وضع حد للالتزام الفلسطيني بالاتفاقيات الموقعة مع الجانب الإسرائيلي،وهو ما تجلي في خطابه أمام الدورة السبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة في الثلاثين من سبتمبر الماضي، الذي أكد فيه أن الفلسطينيين لا يمكنهم الاستمرار بالاتفاقيات الموقعة مع إسرائيل ما دامت مصرة علي عدم الالتزام بها وترفض وقف الاستيطان والإفراج عن الأسري وطالبها أي اسرائيل - بأن تتحمل مسئولياتها كافة كسلطة احتلال لأنّ الوضع القائم لا يمكن استمراره . ولاشك أن هذا الموقف يعكس اتساع نطاق اليأس لدي أبو مازن بالذات، الذي ظل علي مدي سنوات توليه رئاسة السلطة الوطنية، مدافعا عن خيار التفاوض مع اسرائيل ورافضا بشدة عسكرة الأعمال الاحتجاجية ضد ممارساتها وانتهاكاتها وكثيرا ما ندد علنا بعمليات مقاومة ضد جنودها ومستوطنيها ومؤسساتها، ومازال علي الرغم مما تقوم به سلطات الاحتلال من أعمال قتل واعتقال عشوائي للشباب الفلسطيني، يدعو إلي ضبط النفس وعقد اجتماعا مع المجلس العسكري والقيادات الأمنية بالسلطة - أخيرا شدد خلاله علي «اليقظة والحذر وتفويت الفرصة علي المخططات الإسرائيلية الهادفة الي التصعيد وإعادة الوضع في الأراضي المحتلة الي مربع العنف». وبغض النظر عن كل تلك العوامل والأسباب التي دفعت الرئيس عباس لتبني هذا التوجه ،والذي يأتي منسجما مع قرارات المجلس المركزي الفلسطيني في دورته الأخيرة، فإنه يعتبر من الناحية السياسية نهاية فعلية لمرحلة أوسلو، وبداية لمرحلة جديدة من عمر النضال الوطني الفلسطيني، الأمر الذي سوف يترك تداعيات وانعكاسات علي النظام السياسي الفلسطيني بشكل عام، وعلي مستقبل السلطة الوطنية الفلسطينية بشكل خاص، إن تحول الي خطوات فعلية علي الأرض، مما يفتح الباب أمام مجموعة من البدائل أمام القيادة الفلسطينية أولها : قيام منظمة التحرير الفلسطينية ممثلة في شخص أبو مازن، باتخاذ اجراءات أكثر تصعيدا في العلاقة مع اسرائيل، خصوصا في ظل تصاعد الإجراءات الإسرائيلية في القدس ومحاولتها فرض تقسيم زماني ومكاني للمسجد الأقصي المبارك والتي تسهم في توتير الأجواء الدينية والسياسية، وذلك من خلال إعلانه حل السلطة الوطنية الفلسطينية، ودمج مؤسساتها الإدارية والأمنية في مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، وإلغاء ومجلس الوزراء وتحويل كل صلاحياتها للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ثانيا :العودة السريعة لمظاهر الانتفاضة الشعبية دور الأجنحة المسلحة في الفصائل الفلسطينية، مما يعني عودة المواجهة مع الجيش الإسرائيلي في كل من قطاع غزة والضفة الغربية ثالثا : انتظار القيادة الفلسطينية لبعض الوقت قبل اتخاذ اي إجراء جديد، بهدف اعطاء الجهود الدولية والعربية فرصة أخيرة للتحرك والخروج من أزمة تجميد عملية السلام وانسداد الأفق السياسي، خصوصا في ظل التحرك الأمريكي والفرنسي الأخير في الأممالمتحدة، والحديث عن طرح فرنسا مبادرة سياسية ترتكز علي إصدار قرار من مجلس الأمن الدولي يحدد سقفا زمنيا لإنهاء المفاوضات وقيام دولة فلسطينية بحلول عام 2017، وفي هذا السياق تأتي تصريحات وزيرة خارجية الاتحاد الاوروبي «موغيريني» التي تحدثت عقب اجتماع اللجنة الرباعية الدولية المعنية بالسلام في الشرق الأوسط الذي عقد علي هامش الدورة ال70 للجمعية العامة للأمم المتحدة موضحة أن «الرباعية» قررت إعادة إحياء أنشطتها مشددة في الوقت ذاته علي الضرورة الملحة لضبط النفس عقب التوترات الأخيرة في القدسالشرقيةالمحتلة ومحيط المسجد الأقصي، محذرة من إمكان تصعيد واسع في القدسالمحتلة مطالبة إسرائيل بتنفيذ الاتفاقيات مع الفلسطينيين، والذين دعتهم بدورهم إلي العودة إلي خيارالمفاوضات المباشرة، وذلك قد يعني أن تهديدات أبو ما زن في الأممالمتحدة قد حققت المطلوب منها، من خلال إعادة الاهتمام الدولي بالقضية الفلسطينية، وأن إصراره علي عدم استمرار الأوضاع علي مما هى عليه قد حقق إنجازا سياسيا بعودة القضية الفلسطينية الي دائرة الاهتمام الدولي،ما قد يدفع القيادة الفلسطينية إلي إعطاء الجهود الدولية بشكل عام والفرنسية بشكل خاص فرصة أخيرة قبل كتابة شهادة وفاة لاتفاق أوسلو. غير أن الأمور لن تمضي في هذا الاتجاه، لأنه ليس من المتوقع أن تتوقف الممارسات العدوانية الاسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني أو علي الأقل تخفت حدتها - في ظل سيطرة عتاة المستوطنين علي حكومة بنيامين نيتانياهو- الطالع هو شخصيا من رحم اليمين المتطرف، والذي تعبر قراراته علي الأرض عن إصرار علي المضي قدما لتنفيذ مشروع تهويد القدس وبناء الكتل الاستيطانية فيها، وفي غيرها من مناطق الضفة الغربية والإبقاء علي سياسات القتل الممنهج ضد الشباب الفلسطيني - وفقا لوقائع الأيام القليلة الماضية، ومن هنا تأتي أهمية بلورة تحرك عربي يتسم بالفعالية والكفاءة العالية في هذه المرحلة، متجاوزا الأطر التقليدية التي اعتمدها النظام الإقليمي العربي، علي مدي العقود الثلاثة المنصرمة في التعاطي مع مخاطر العدوان الاسرائيلي ضد الفلسطينيين، الذي لم يتوقف عند حد ويتخذ في كل مرحلة وجوها أكثر قسوة ودموية وتنكيلا، علي نحو يشكل عنصر إسناد حقيقي لهم، إذا ماقرروا المضي في انتفاضة ثالثة تركز علي الوسائل السلمية حتي لا يتم تصنيفها، ضمن دائرة الإرهاب - وفق ما يحاول الخطاب السياسي والإعلامي للدولة العبرية أن يسوقه منذ الانتفاضتين السابقتين والذي تتماهي معه- للأسف - الرؤية الغربية، بالذات الأمريكية، والتي تري فيما تقوم به من انتهاكات وقتل ممنهج نوعا من الدفاع عن الذات . وثمة مراهنة قوية في هذا السياق علي الاجتماع الطارئ المرتقب لمجلس الجامعة العربية ،علي مستوي وزراء الخارجية العرب الذي دعت إليه دولة الإمارات العربية المتحدة، وأقره المجلس في اجتماعه يوم الثلاثاء الفائت علي مستوي المندوبين الدائمين، والذي تضمن التوصية بسلسلة من الإجراءات لكنها غير كافية، لردع السياسة العدوانية لإسرائيل وهو ما يستوجب الإشارة الي أنه من الضرورة بمكان أن يتبني هذا الاجتماع -والذي تجري الأمانة العامة للجامعة العربية مشاورات مكثفة للإسراع بعقده - أن يتبني رؤي ومسارات وقرارت وخطوات تتسم بالطابع العملي، ويخرج عن دائرة الخطابة لكي ينتج عنه ما يطمئن الشعب الفلسطيني وفصائله، التي وحدها نزيف الدم لأول مرة منذ يونيو 2007 عقب سيطرة حركة حماس علي قطاع غزة، صحيح أن المطلوب ليس إعلان حرب عربية علي إسرائيل فذلك مستبعد لأسباب تتعلق بقدرات العرب الراهنة، فضلا عن أن المناخ الدولي لايسمح بها بشكل أو بآخر، ولكن هناك أوراق قوية ما زالت بأيديهم، في مقدمتها ورقة العلاقات الدبلوماسية خاصة علي مستوي الدول التي لاترتبط باتفاقيات سلام مع اسرائيل، وإن كان ذلك لايمنع من مطالبتها باتخاذ إجراءات حاسمة من قبيل تخفيف العلاقات الدبلوماسية الي مستوياتها الدنيا، إضافة الي ورقة التطبيع الاقتصادي الذي يعمل بكفاءة علي الرغم من كل صنوف العدوانية التي تمارسها سلطات الاحتلال، وثمة من يدعو في هذا الصدد الي إعادة النظر في مبادرة السلام العربية التي لم تعرها الدولة العبرية أي اهتمام منذ تبنيها في قمة بيروت 2002 وذلك بهدف تكريس عزل اسرائيل عن المحيط العربي الذي يقدم لها التنازل تلو الآخر، بينما تقابله بمزيد من الكراهية والعداء لكل ما هو عربي وفلسطيني .