هى العلمانية .. أو فصل الدين عن تعاملات الحياة. سمها أى اسم تشاء. بعدما صار المصطلح سببا لأن يتحفز من تكلمه ويتوتر وكأنك تطلب منه التخلى عن معتقداته الدينية. مع أن الكل يمارس حياته الاجتماعية بصورة علمانية تماما. وبديهى أنه لا يمكن لأحد أن يرغم أحداً على تغيير عقيدته. حتى إن المصريين حين بدلوا دينهم ثلاث مرات فى التاريخ حدث ذلك تلبيه لحاجة روحية لديهم. حتى ليعتبر دارسو التاريخ المصرى أنه لا غير تاريخ التحولات الروحية للمصريين والدفاع عن حدودهم الجغرافية . بما تنطوى عليه هذه الفكرة من تمصير للأفكار والأديان لكى تستمر مصر. تؤكد وقائع الليل والنهار أننا جميعا علمانيون فى تعاملاتنا اليومية. فأنت لا تحترم إشارة المرور على خلفية دينية ولا تشترى أو تبيع على تلك الخلفية. لأنه لا يوجد غير الأساس القانونى لذلك.. وكرئيسى فى العمل لن تخصم من راتبى أو تكافئنى لأننى أمارس شعائر دينى بطريقة رديئة أو جيدة. إنما وفقا لضوابط العمل.. وهكذا.
إذن ما مشكلتنا مع العلمانية ؟ هل فى كونها مصطلحاً غريباً . خاصة بعد أن قطعت الحضارة الغربية شوطاً جاعلاً منها نمطاً كونياً. بينما لاتزال ذاكرتنا تحتفظ بصورة ماض كان مزدهراً. أفادت منه الحضارة الأوروبية فى بدايتها. وكان ذلك الازدهار بفضل الطبيعة العلمانية والدنيوية لحضارتنا وليس بالقطع بفضل كثرة تديننا. أمر جعلنا بإزاء مزيج من الشعور بفقر الذات وتمجيدها تاريخياً. مزيج من رفض الغرب (الاستعمارى)، ثم السعى إليه سعياً يشهد عليه غرق الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين فى عرض البحر المتوسط فى خبر شبه يومي. اليوم لا خيارات.. إما النكوص إلى ماض بعيد والتغنى به، أو السعى الجاد لدخول العصر كدولة مدنية ديمقراطية حديثة. خياران يلخصان اتجاهين رئيسيين فى السياسة اليوم. لا خيار ثالثاً فى الموضوع .خاصة بعد أن اختارت الإدارة الأمريكية تنشيط الطائفية تخلصا من متاعب هذه المنطقة. بتفتيت دولها إلى دويلات لا خطر منها. وهو سيناريو واضح ومعلن ويجرى تنفيذه بهمه ونشاط . فهناك مسيحيون ومسلمون ، والمسلمون بدورهم سنة وشيعة، والسنة وهابيون سلفيون وأيضا يوجد أباضية ودروز ويزيدون.. إلخ. والوهابيون بدورهم عدة فصائل.. وكلهم نازل طحن فى الثانى باسم الدين. يعنى لا سبيل لتفتيت المنطقة بغير نتشيط الانتماءات الطائفية .
التمصير.. خلاص المصريين الدائم نحن نولد ونموت فى مجتمع عاش كثيراُ وتكمن قوته فى التاريخ. وكل منا له نصيب أو حصة مما تراكم أو من تراث تعطل فى الأربعين سنة الأخيرة. أى حضارة راسخ تم تعطيلها عبر نظامين. نظام استبد بالمصريين وافسدهم مكرسا فيهم العبودية. تؤازره ثقافة وهابية ليس بحوزتها غير المال والجهل. فكان أن قاما معا بتنشيط أسوأ ما فى عصور الانحطاط المصرية. وإن بقت تحت الجلد السمة الدائمة للمصريين وهى الاستمرار فى بناء التاريخ بالبناء. بالبناء وحده. غير إننا اليوم فى حاجة إلى ما يسميه علماء النفس «نبضه تطورية» تصل ما انقطع من الزمن . كما إننا بحكم القدرة على الاستمرار لسنا من الشعوب التى تتصلب ( تتنح) أمام ضرورات التطور. مهما بلغت نسبة الأمية و رداءة التعليم. فالمصريون يختارون – بعيداً عن النخب التى تنقل نقلا حرفيا عن الغرب – بعقل جماعى قادر على تمصير ما يوائمه من مفردات ثقافية وافده. وإعادة إنتاجها فى صورة مصرية خالصة . لقد غزت مصر أربعين قومية عبر التاريخ – يعنى أربعين ثقافة – مكث بعضها فى مصر لعقود أو حتى لقرون . انتهت جميعا بعد أن ذابت فى وعاء الثقافة المصرية ثم رحلت و بقت مصر. ثلاثة أرباع هذه الغزوات كان من الغرب إلى حد أن صاغ الوجدان الشعبى المثل المعروف « ماتجيش حاجه من الغرب تسر القلب « . و هذا سبب آخر للحذر من العلمانية كمصطلح غربى أساساً . الصيغة التى تستوعب تعايش كل هذه الثقافات هى بالضرورة علمانية، والديانات بالطبع احد المكونات الثقافية يجرى عليها ما يجرى على بقيه عناصر الثقافات. بإعادة إنتاجها إلى صورة ونصوص وطقوس مصرية خالصة . لذا يوصف الإسلام المصرى مثلا بالوسطية. وهو امر جعل للإسلام و المسيحية صورتين مصريتين لا تشبهان نفس الدينين لدى شعوب أخرى. ولم يكن لمصر أن تستمر فى التاريخ بغير استيعاب هاتين الديانتين الكبيرتين بصورة تناسب هذا الاستمرار . المعنى أن (المصرية) أقوى حضورا فى الشخصية المصرية مما عداها . و هى (عجنة) واجهت كما قلنا فى الأربعين عاما الأخيرة محاولة لتغيرها بالوهابية ، و عبودية نظام مبارك أو بكليهما معاً. فى وقت تمثل فيه الطائفة الواحدة داخل الدين الواحد دينا لشعب من شعوب المنطقة (الشيعية مثلا أو الأباضية أو الوهابية.. إلخ). لا اعرف – ولا احد يمكنه أن يتوقع بالتفصيل – إلام ستئول العلمانية بتفاصيلها داخل النسيج المصرى . لكنها لن تكون اكثر من تمصير جديد لفكرة وافده – خاصة أن مصر فى مفترق طرق اليوم . انهم سيرونه من التاريخ المستمر . يختلط فيها الدينى بالسياسى بالتاريخى بالشعبى اسمها «القومية المصرية» سين سؤال : طالما أن سمه هذه السيرورة المصرية إنها علمانية . فيم إذن نحتاج إلى تمصير نفس المفهوم مرة أخرى ؟ جيم .. لأول مرة فى التاريخ فيما اعلم تحتاج كل من الثقافتين الشعبية والرسمية إلى هذه العلمانية بعد أن ظل الدين لزمن طويل احد اهم أدوات الحكم بالنسبة للحكام. نحتاج إلى هذه النبضة من التطور حكاما ومحكومين . بما تقتضيه من قوانين وتشريعات و أداء مؤسسات.. إلخ. وهو امر يستغرق وقتا قبل أن يرسخ كتقاليد وأخلاق اجتماعية حاكمة للجميع. وليس مجرد سمة للثقافة الشعبية . أخيراً.. ربما يعرف الكثير منا منبر عبدالناصر بالجامع الأزهر كما سماه المصريون . بعد أن ظل اسمه لمئات السنين منبر «كتخدا» نسبةً إلى بانيه «عبدالرحمن كتخدا» و ذلك بعد أن وقف عليه عبدالناصر ملقياً خطبته الشهيرة أبان العدوان الثلاثى فى 1956.