قالوا لنا إن هناك ثلاثة رجال تبقوا من الذين خاضوا حرب اليمن، اثنان منهم مصابان بجلطة ولا يستطيعان التحدث، أما الثالث فهو السيد إبراهيم أبو محمد، والذى يبلغ من العمر 73 عاما، وكان يعمل فى " عزبة اليمن " كصانع (حناطير) ولكنه انتقل بالقرب منها فى منزل كبير يضم معظم أبنائه الثمانية وأحفاده. أبو محمد.. وحده الذى بقى ليتحدث فى "عزبة اليمن " بمدينة فارسكور، واحد من المحاربين فى اليمن منذ عام 1964، وجدناه على كرسى متحرك، يجلس فى الشمس على شط الترعة، وحوله أولاده وأحفاده، تبدو عليه علامات الوسامة والرجولة، لم يخف الشلل النصفى الذى أصابه إبتسامته.. فى البداية بكى الرجل لأنه وجد أخيرا من يسمعه ليروى لنا قصته أثناء اشتراكه فى حرب اليمن، والتى استمرت ثلاث سنوات، عانى فيها بما يكفى من الصعاب والمشكلات كان رقيب مجند مشاه رقم 193658سلاح المدفعية اللواء 113، هكذا قرأ الرقم دون تلجلج، وأنهى خدمته فى 10مايو 1974، شارك فى حرب اليمن لمدة ثلاث سنوات عام 1964 وحتى عام 1966، فى ظل الصراع الكبير بين كل من عبد الله السلال، وبين الملك الإمام البدر على حكم اليمن، والذى انتهى بخيانة كل منهما الآخر ومقاتلتهما ، وقتها لم يأخذ إجازة سوى 15 يوما فقط، وكان متزوجا وعنده طفل عمره حوالى سنة. ويتذكر الرجل فترة الحصار التى تعرض لها لمدة 15 يوما، وكيف كان مضطرا للعيش على التين الشوكى، وأحيانا إلى أكل الحيوانات مثل الثعابين والكلاب وغيرهما. ويضيف فترة خدمتى كانت فى مناطق بين قرية البيضا وصنعاء ومأرب، وكذلك منطقة الحرف، والتى تم أسرى فيها لفترة، وكان يتم ضرب تلك المنطقة بواسطة الطائرات، ولم يكن لنا مأوى سوى المتاريس المصنوعة من الحجارة، وقتل حينها عدد كبير من زملائى، أيضا اشتبكنا فى قرية كحلان، حتى تم احتلالها بالكامل على يد الجنود المصريين، والتى راح ضحيتها 15 شخصا، وتم دفنهم عند بئر الماء، حتى صدر أمر بإخلائهم من المكان بعد مرور 15 يوما، ونقلهم إلى مدافن صنعاء، وعند إخراجنا الجثث لم نجد لها رائحة، وهذا ما أثار فضولنا وشجعنا، خاصة عندما قال أحد الزملاء أليس زملاؤنا " شهداء عند ربهم يرزقون " ، وعندما عدت إلى مصر، يقول إبراهيم ابومحمد : وفى عام 1966 حصلت من الرئيس عبد الناصر على مبلغ 1500 جنيه، واشتريت محلا لأعمل فيه بتصنيع " الحناطير " وعربات الكارو فى عزبة اليمن، حيث كان متر الارض فى ذلك الوقت بمبلغ 25 قرشا، و"عزبة اليمن " هى أرض اشتراها ملاكها الحاليون فى ظل حكم الرئيس جمال عبد الناصر، الذين شاركوا فى حرب اليمن، وسُميت بذلك الاسم تيمنا بأنهم شاركوا فى الحرب، ويؤكد مختار البهنساوى، أحد سكان العزبة، وزوج ابنة أبو محمد، أن الرئيس جمال عبد الناصر، أعطى لكل مقاتل مكافأة بعد عودتهم من اليمن، فاشتروا جميعهم هذه الأرض الواقعة على حدود مدينة فارسكور، كل حسب مقدرته وسكنوا فيها، ومنهم من باع بيته بعد ذلك وانتقل لمكان آخر، وهناك عائلات كثيرة فى العزبة تعرف هذه القصة، الأبناء الكبار على الأقل، ولكن يبقى الاسم " عزبة اليمن" كما هو لم يتغير، وأعتقد أنه لن يتغير، غير أن ثمن متر الأرض وحده هو ماتغير حيث كان ب 25 قرشا- فى هذا الوقت- والآن وصل الى أكثر من 7 آلاف حنيه. أما ابنه أحمد فقد أخبرنا بأنه وأخوته يعرفون اليمن من خلال حكايات والدهم ، التى سهروا حولها سنين طويلة، مضيفا أنه استكمل مسيرة أبيه، وحارب هو فى أكتوبر 1973 ، مضيفا نحن نروى له مايحدث الآن فى حرب اليمن الأخيرة، ونعتقد أنه غير مستوعب لما يحدث الآن بشكل أعمق، ولكنه يعرف أسماء مناطق اليمن جميعا. إلا أن ابنته الصغرى " إيمان " تعرب عن مخاوفها من حرب عاصفة الحزم ، 2015 فالوضع خطير بالنسبة لنا وشقيقها الأكبر "السيد" يعمل فى السعودية، وللحظ فهو قريب من منطقة المعارك، وكأن هذه العائلة كتب عليها أن تشارك فى كل حروب اليمن. وعلى العكس كان الحال الذى عليه الآن حسن كامل الجندى، الذى كان يشارك أبومحمد فى هذه الحرب ، يعمل الآن بائعا للعطور والشامبوهات، فى السوق التجارية بدمياط، يجلس على عتبة محل صغير وفى يده " آى باد" يتواصل من خلاله مع أحفاده وبنتيه وابنه الوحيد الذى يعيش فى السعودية. اشترك " الجندى " فى حرب اليمن، فى نهاية عام 1964، نزل فى الحديدة عن طريق الباخرة "كيلوباترا "، ثم إلى مدينة صنعاء، ثم توجه إلى مدينة الضبعات، ليصاب فى كتفه بعد 4 أشهر من وصوله، فتم إرساله إلى مستشفى البكرى بالقاهرة لعلاجه، وبعد العلاج عاد إلى كتيبته فى الجبل الأسود فى اليمن، المقابل لجبل الملح، الذى كان يسيطر عليه ابن الأحمر، الذى انشق على الثورة اليمنية فى ذلك الوقت، وكان يضرب القوات المصرية فى اشتباكات مستمرة. يضيف " الجندى" أنه كانت هناك معاناة من ارتفاع الجبال، والقرى المجاورة، التى تشهد اشتباكات بينها بشكل دائم، وكانت المأساة الكبرى هى كيفية الحصول على المياه، التى كانت تكلفنا أرواحنا، فى الحصول عليها، وكنا نسكن فى أعلى الجبال، وهذه كانت مشقة لنا، وكانت القوات المصرية تدعم هذه القرى بالتعيينات والمأكولات. ويقول ابنى الوحيد فى السعودية الآن وهو فى الجنوب فى " أبها" وقريب من المعركة، وحادثته عن طريق النت، وقلت له أتمنى أن أشارك فى قوات الدفاع المشترك التى تم اقتراحها الآن، حيث إنى أعلم جيدا قيمة اليمن لأمن مصر. ومن عزبة اليمن فى دمياط إلى الوادى، التى تبعد 40 كيلو مترا جنوب مركز ومدينة الخارجة، يسكنها الغالبية من أبناء محافظتى سوهاج وقنا الذين وفدوا إلى الوادى لأجل البحث عن لقمة العيش، ومع مرور السنوات استقر هؤلاء الغرباء فيها، وتزوجوا، وصارت لهم عائلات وأبناء استطاعوا رغم كل الظروف المحيطة بها أن يصبحوا من نخبة المجتمع الجديد هناك. والى عام 1960 يعود الظهور الأول للقرية التى تحتضن بين جبالها حوالى 350 أسرة، وزمامها الزراعى يصل حاليا لحوالى 3000 فدان، وتنتج أجود الحاصلات، عندما أعلن الزعيم الراحل جمال عبد الناصر عن إنشاء واد جديد محاذ لوادى النيل فى الصحراء الغربية عام 1958، وبالفعل تم إقامة عدد من القرى مدعمة بمساحات من الأراضى الزراعية الخصبة، وتم توطين عدد كبير من الأسر التى جاءت من وادى النيل، وتحديدا من محافظاتسوهاج وأسيوط وقنا، وتنفيذا لقرارات الزعيم الخالد عبد الناصر تمت تسمية هذه القرى بأسماء بعض العواصم العربية مثل الخرطوم – ناصر – الثورة – الجزائر – صنعاء – فلسطين – الكويت – عدن – بغداد – جدة. ويقول عمدة صنعاء نحن نشعر بالحزن لما يحدث فى صنعاء اليمن ، فيكفى أنها تحمل اسم قريتنا، ونأمل بأن ينتهى هذا الدمار الذى لحق بالأشقاء العرب على خير، وأن يعيش شعب اليمن وصنعاء اليمن بكل خير.