حين سيرت الدولة الترام في الشوارع لأول مرة 1886 ثار المشايخ ورجال الدين . ينادون بإيقاف هذا الغول الحديدي درءا للفساد . الذى يمكن النساء من مشاهدة الرجال . مما يشجع على انتشار الرذائل – كانت الرذائل ولا تزال مسألة امرأة ورجل . جاء الترام وولى ، وظلت الدولة هي من يسبق دائما . ما عدا في لحظات الخطر التي تتعلق بمستقبل الوطن حينئذ تظهر إيجابية المصريين ، وتتوارى بعد زوال الخطر .تقدمت دول اوروبا من ظلمة القرون الوسطى ، بعد أن حرث التربة ومهد العقول مفكرون وفلاسفة وأدباء . أما في مصر الحديثة . فقد ظلت الدولة هي الفاعل الرئيسي حتى ثورتي 25 يناير ، 30 يونيو . أظهر بهما المصريون إيجابية بعد محاولتين كبيرتين انتكستا هما ثورة 1919 والتجربة الناصرية . بعد الأولى أنشئ تنظيم الإخوان المسلمين ، وللثانية وجهت الضربة القاصمة في يونيو 1967 وان ظلت السمة العامة للدولة الحديثة أن التغيير الاجتماعي لا يمس الناس كثيرا . باستثناء فترة الستينيات ، لذا يتذكر الناس عبد الناصر - . والمعنى أن الدولة هي الأسبق وان كانت تصطدم بالأعراف المحافظة دائما .وظل السقف الحاكم للجميع دولة وشعبا هو البنية الدينية التقليدية . أو ما يسمى بالطبيعة الدينية للمصريين . رغم أن الروافد المكونة للشخصية المصرية عديدة ، الدين أحدها . حتى في هذه كان يجرى تكييف الأفكار الدينية لتلائم الشخصية المصرية لتتسع للجميع – مسلمين ومسيحيين ويهود وغرباء - . من غير أن يصبح المجتمع المصري مدنيا أبدا . حتى إن لبست هذه الشخصية في الحيطة مع الوهابية والدين السياسي . ونقصد تجربة الإخوان المسلمين . وهنا نقطة تحول كبرى في التاريخ الحديث .
الملاحظ خلال المائتى عام أن أي تغيير لم يكن يتغلغل في الثقافة العامة ويرسى تقاليد للمصريين . كان ينتهى دائما ويرتد المجتمع تقليديا محافظا . بل إن جهود تنويريين عظام مثل محمد عبده وطه حسين وزكى نجيب محمود ولويس عوض – وجميعهم قدموا جهودهم عبر مؤسسات الدولة - ، قد سلموا في نهاية حيواتهم بقدر من هذه السمات المحافظة والتقليدية .. سلموا بهذا السقف بعد ما رفعوه قليلا .. لماذا ؟ هناك إجابة .
قراءة لبدايات الدولة الحديثة ، تقول إنها نشأت مع رؤية رأس النظام أو الباشا محمد على . والذى أدرك بذكاء ان اكبر معطل ضد مشروعه الكبير لمصر هو الفكر الوهابي . فوجه له ضربتين قويتين في عقر داره بالدرعية . بالتوازي مع إرساله للبعثات الشهيرة إلى اوروبا . ثم بدأ ما يعرف بمشروع الطهطاوي التنويري . والمعنى أن الدولة هي من قام بتطوير المجتمع المحافظ آنذاك . طبعا هناك إجراءات اقتصادية ، على أهميتها فهي ليست موضوعنا الأن .
المهم ان النخبة التنويرية الجديدة ظلت تدفع بالقديم نحو الأمام بهدف تحسينه .. بمعنى آخر، ظلت تلت وتعجن في التفسيرات القديمة من غير أن تستقر نتائج ذلك في ضمير المجتمع كثيرا . في كل الحالات ظلت (الدولة ) الحديثة تدير (مجتمعا) تقليديا محافظا . ورغم هذا لم تسلم التجربتان من عداء رجال الدين الوهابيين والغرب وقبلهما الدولة العثمانية صاحبة الخلافة وأضيفت اليوم أمريكا .
إذن دولة حديثة ومجتمع محافظ . حقيقة تذكرنا بقول الجنرال يعقوب المصري لنابليون بونابرت قبل تولى محمد على وإزاحته لعمر مكرم وقادة الأزهر التقليديين .. « إن التغيير في مصر لن يكون نتيجة لأنوار العقل ، كنشر التعليم والفلسفة .. الخ . إنما بالقوة القاهرة « . وهى إشارة قوية إلى مركزية الدولة التي تهيمن وتوجه الواقع على مدى التاريخ المصري .
ومخطئ من يظن أن الإخوان المسلمين يجهلون هذه الحقيقة ، فهم من يردد بان « الناس على دين ملوكهم « . وعليه انصب جهدهم كله إلى (المجتمع) لا إلى الدولة . أي لصيانة البنية التقليدية للمجتمع بإقامتهم لشبكة من المؤسسات تمثل دولة بديلة . وهو سعى وافق إرادات أمريكية وغربية . حتى حانت اللحظة المناسبة للانقضاض على (الدولة) . إلى هنا والكلام عادى ومعروف .
إذن طوال التاريخ الحديث كان هناك دائما مشروع (دولة) وليس مشروع (مجتمع) . وهكذا بدا في المائتى عام الأخيرة ، كأنما الموقف من الدين السلفي الوهابي هو الذى يحدد دخول المجتمع في طور الدولة الحديثة أو البعد عنها . في أول جلسة لمحاكمة الإخوان قال الكاتب أنور الهوارى للمذيعة تعبيرا مهما .. « إن من يحاكم اليوم ليس الإخوان المسلمين ، أنما طريقة تفكير موجودة في مصر » .
فما الذى حدث اليوم ؟ . صار طرفا المستقبل هما الدولة بممثليها والمصريون في عمومهم ، وهذا جديد . في رسالته للدكتوراه المنشورة بعنوان « الشخصية الوطنية المصرية » يقول طاهر عبد الحكيم وتنقل عنه باختصار مخل . إن هناك دائما مسافة من التوجس والريبة والتحايل ، متبادلة بين عموم المصريين وحكامهم . ماعدا في أوقات تعرض مصر لخطر حقيقي . غزو اجنبي مثلا . حينئذ يتوارى ذلك الشك المتبادل ويتوحد الطرفان إلى أن ينتهى الخطر ، ثم يعود بعدها كل طرف إلى سابق عهده من الشك .
اليوم نزعم انه لن يعود كل طرف إلى سابق عهده . لماذا؟ ذلك أن المصريين أدركوا أن الوهابية لحظة خطر حقيقي تشبه مثلا حرب أكتوبر 1973 بمعنى أنها ضد التطور الاجتماعي . مثلما كان دائما .. أيام محمد على وعقب ثورة 1919 وأيام عبد الناصر . ثانيا وهو الأهم – انهم بصدد لحظة تاريخية نادرة يمثل فيها مشروع الدولة في نفس الوقت مشروع المجتمع . بدليل ثورتين كبيرتين .
ودعك من خوف المصريين من كلمة « العلمانية « سيئة السمعة . فلا دخول إلى العصر الحديث بدون تلك العلمانية مع كامل الاحترام لكل دين . فثمة فراغ كبير سيخلفه تنظيم ديني عاش بينهم لثمانين عاما . تنظيم عمل على ( المجتمع ) إلى أن أتته الدولة فامتلك الحسنيين .
معنى هذا أن الوعى الجماعي للمصريين ادرك إن التخلص من فكر الإخوان المسلمين ضرورة للتقدم نحو المستقبل . والحق أن ما جرى يدعو للثقة في هذا الوعى الجماعي لمصريين كم جرى وصفهم بالعبودية . الحق أيضا أن هذا الأمر يمكن تفهمه عبر مرحلة تاريخية كاملة . وليس عبر أيام أو سنوات لن نرى فيها غير ما تراكم لدينا من مصائب خلفها عصر مبارك .
يساهم في فهم لحظة الخطر هذه ما ذكره الراحل احمد بهاء الدين . كون مصر في أوقات الخطر التاريخي يظهر من أبنائها شخص كان قبل اللحظة مجهولا . يضطلع بمهمة انقاد مصر من الانهيار ويدلل على ملاحظته بأمثلة . ودعك الآن من شخص رئيس الدولة ومن الأداء السيئ للإعلام .
بأمانة معرفية مفيش عسكر في الموضوع . وحكاية العسكر هذه تنتمى إلى التوجس التاريخي بين المجتمع والحكام . فلا يوجد عسكر في الدنيا يدفعون بالأمور نحو دولة مدنية ديمقراطية حديثة . لكنها الدولة بما يقتضينه مفهوم الدولة الأن . ثم هو المجتمع ممثلا في ثورتين كبيرتين .
يبقى أننا بصدد لحظة خطر نوعية جدا . بمعنى أن المواجهة الأمنية على أهميتها لن تصنع وحدها مصر المدنية الحديثة . أنها فقط ستزيح خطرا تاريخيا ضد أن تصبح مصر دولة حديثة . ويظل الترميم العاجل لبعض ما خلفته دولة مبارك من انهيارات أمرا ملحا في التعليم والصحة والثقافة والعدل الاجتماعي .. الخ . يمكن القول بثقة إن ما فات من تاريخ كوم .. و الجاى كوم .