عندما قام الرسام الدنماركى كورت فيسترجارد برسم عمامة الرسول على شكل قنبلة، ونشرت صحيفة «يولاندس بوستن» الدنماركية هذا الرسم مع رسومات أخرى مسيئة للرسول فى سنة 2006، قامت الدنيا ولم تقعد فى العالم الإسلامي، واندلعت موجة غضب عارمة ومظاهرات قوية وعنيفة للمسلمين فى جميع أنحاء العالم، وصلت إلى حد اقتحام السفارة الدنماركية فى دمشق، وانفجار سيارة مفخخة أمام السفارة الدنماركية فى إسلام أباد، مما أسفر عن مصرع ثمانية أشخاص وإصابة العشرات. أما عندما وضعت داعش اسم الرسول على راية سوداء، وحملت تحتها مدافع وقنابل حقيقية، وقطعت رءوس عشرات المعارضين، وقتلت مئات المسلمين الشيعة بدم بارد، وشردت آلاف المسيحيين وأحرقت كنائسهم فى الموصل، وفعلت كل ذلك باسم الإسلام وتحت هذه الراية المكتوب عليها «لا إله إلا الله محمد رسول الله» لم تخرج مظاهرة واحدة فى العالم الإسلامي، ولم يحدث أى شيء، سوى تداول بعض الصور ومقاطع الفيديو لجرائم داعش فى الفيس بوك من باب الفضول أو من باب الطعن فى الإخوان. ماذا يعنى هذا؟ قد يعنى هذا أن الرسام الدنماركى قد وضع أصبعه فى الجرح الإسلامي، وقال الحقيقة المؤلمة التى نحاول ألا نعترف بها. وقد يعنى هذا أن الرسوم المسيئة تغضبنا، بينما الأفعال المسيئة لا تثير فينا أى رد فعل، أى أننا نعانى من ازدواج فى الشخصية. وقد يعنى هذا أيضا أن الذين أقاموا الدنيا وأقعدوها، واقتحموا السفارات هم أنفسهم الذين يشردون ويقتلون ويقطعون الرقاب، وأن من يدعون الوسطية موافقون موافقة ضمنية على أفعال داعش، ويعرف كثير من الناس معنى داعش وأفعالهم الشنيعة فى سورياوالعراق، بعدما انتشرت الأخبار عنهم فى وسائل الإعلام الأجنبية والعربية، وراجت على المواقع الإلكترونية وصفحات التواصل الاجتماعى مقاطع فيديو فظيعة للداعشيين وهم يقتلون المعارضين بالأسلحة الآلية، ويقطعون رءوس المخالفين لعقيدتهم باستمتاع وهدوء شديد، وتجد حولهم دواعش آخرين يكبرون ويهللون ويستمتعون أيضا بمنظر الدماء وهى تسيل على الأرض. وهناك مقاطع فيديو أخرى وهم يهدمون آثار العراق ويدمرونها بالمدافع، مثلما دمرت طالبان من قبل تماثيل بوذا العملاقة الأثرية فى بلدة باميان الأفغانية. إذن كلنا نعرف من هو الداعش الكبير، أما الداعش الصغير فغير معروف لمعظمنا. أغلبنا لا يعلم من هو الداعش الصغير، رغم أنه يعيش بيننا، قد يكون صديقك أو جارك أو زميلك فى العمل، ومع ذلك لا تدرك أنه داعش صغير إلا حين تتناقش معه فى أمر من أمور الدين، أو مسألة فقهية، أو تجادله فى موضوع مختلف عليه مثل فرض الحجاب، أو عذاب القبر، أو فوائد البنوك. والطريف أن الداعش الصغير نفسه لا يعلم أنه من فصيلة الدواعش، فهو يصنف نفسه وسطيا، أى ينتمى للتيار الوسطى فى الإسلام، ويرى نفسه مسلما معتدلا ليس متشددا أو متطرفا، بل قد تجده ينفر من داعش فى سورياوالعراق، وتستفزه بشدة مقاطع الفيديو التى يروجونها، ويعتقد أن أنصار داعش ليسوا مسلمين وإنما عملاء لمخابرات دول أجنبية ومأجورون لتشويه صورة الإسلام والمسلمين. وهو داعش صغير رغم أن معرفته بالإسلام فى الواقع محدودة جدا، مجرد قشور يستمدها غالبا من القنوات الفضائية المدعومة بأموال النفط، التى تعمل على نشر الأفكار السلفية الوهابية. والداعش الصغير لا يعلم عن التاريخ الحقيقى للإسلام إلا أقل القليل، ما يتذكره من الكتب المدرسية، أو ما شاهده من أفلام عربية كالشيماء وفجر الإسلام والرسالة، أو ما شاهده من أعمال تليفزيونية فى رمضان، ولكنه لا يعترف بهذه الحقيقة أبدا ويحاول إيهام الناس بغير ذلك. وقد تتصور أن الداعش الصغير لا بد أن يكون ملتحيا أو سلفيا، أو أن تكون منتقبة أو محجبة، لا ليس شرطا، فقد تجد داعشا صغيرا غير مواظب على الصلاة ويرتدى الجينز والملابس الكاجوال، وقد تجد داعشة صغيرة سافرة ولكنها تعتبر أن الحجاب فرض، وآن أوان التوبة لم يأت بعد فحسب. إذن الداعش الصغير يختلف كثيرا عن الداعش الكبير، فلماذا إذن ينتمى الاثنان لفصيلة الدواعش؟ يشترك الداعش الصغير مع الداعش الكبير فى عدد من السمات: أولا: الدواعش يعتقدون بأن الإسلام طبعة واحدة وقول واحد ورؤية واحدة للعالم، وكل ما يخالف هذه الرؤية ليس من الإسلام فى شيء، وكل من يخالف رأيهم إما جاهل أو كافر. وبالتالى يعتبر الدواعش أن واجبهم، ليس مناقشة المختلفين معهم وإنما ردعهم وإهانتهم فى حالة الداعش الصغير، وقتلهم والتمثيل بجثثهم فى حالة الداعش الكبير. ثانيا: الانفصال التام بين العقيدة والسلوك. فالدين عند الدواعش مجرد طقوس، عملية إجرائية لها خطوات محددة، لا تتعدى أبدا الشكل والعبادات، فكم من داعش صغير نلقاه فى الحياة فنجده حريصا للغاية على إقامة شعائر الدين، ولكن ما أن نتعامل معه فى الأمور المادية حتى نكتشف أن سلوكه يناقض مظهره. وهؤلاء الدواعش لا يجدون أى تناقض بين نقائهم الديني، وبين الكذب أو إهانة الناس أو تلقى الرشوة أو إلقاء القمامة فى الطريق. ثالثا: الدين بالنسبة إلى الدواعش ليس علاقة روحانية مع الله، وإنما الدين عندهم وسيلة لإظهار تميزهم عن الآخرين، الداعش الصغير أو الكبير يستمتع بإظهار تدينه؛ لأنه يحس عندئذ أنه أفضل من الآخرين الأقل التزاما بالدين منه، وهو غالبا ما يعانى من مركبات نقص يعالجها بتفوقه الدينى على الآخرين. رابعا: الدواعش لا يمارسون تدينهم ليمنحهم السكينة والسلام، وإنما يستعملونه لكى يقهروا الآخرين ويسيطروا عليهم. قد يشعر الداعش بأن الآخرين أفضل منه تعليما أو أكثر حظا فى الحياة، لكنه يعوض ذلك بأن يمارس عليهم تدينه حتى يحس بأنه أفضل منهم عند الله، كما أن الداعش لا يكتفى بإظهار تميزه عن الآخرين وإنما يظهر غالبا احتقاره للمختلفين عن لكى يستمتع بتفوقه الديني. خامسا: الدواعش يؤمنون بأن الإسلام هو الحقيقة الوحيدة المطلقة التى تسمو على الأديان الأخري، يعتقدون أنهم الوحيدون المؤمنون الأطهار وأن أتباع الأديان الأخرى كفار أنجاس يعيشون فى الضلال، وبالتالى لا يعترفون للمختلفين عنهم بنفس الحقوق، ويدفعهم تعصبهم الأعمى إلى التعالى على الآخرين واحتقارهم والاعتداء على حقوقهم فى حالة الداعش الصغير. لمزيد من مقالات د. جلال الشايب