منذ بضعة أسابيع، تنظر مدريد في مرآة أثينا متسائلة ما إذا كان النصر المحتمل للحزب اليسارى الراديكالي "سيريزا" يمكن آن يسهم في نجاح "بوديموس"، الحركة المناهضة للتقشف التى هزت الرقعة السياسية الإسبانية، فهل سيتكرر الاقتراع اليونانى - الذى عُقد يوم الأحد 25 يناير- بشكل عام فى الانتخابات التشريعية الإسبانية الّتى ستعقد قبل نهاية هذا العام؟، وهل سيكون صعود اليسار السبب الرئيسي فى غروب شمس الملكية عن أسبانيا؟. يكاد البعض يجزم أن اليسار سيكون له نصيب كبير فى الانتخابات القادمة, فكما هو الحال في اليونان حيث دفعت سنوات من سياسات الركود والتقشف الناخبين إلى وضع حزب أقصى اليسار فى السلطة فى الانتخابات الأخيرة، أسبانيا أيضا تستعد للتحول بإتجاه اليسار الدرامى, وهذا ما كشف عنه إستطلاع للرأى نشرته جريدة "الباييس" عن تقدم حزب "بوديموس" أو "نستطيع" بسبع نقاط عن الحزب الشعبى الحاكم, بينما ينهار الحزب الاشتراكى في أسوأ نتيجة له. ويرى المحللون أن السبب الرئيسى فى تقدم "بوديموس" لنتائج هذا الإستطلاع، هى الأزمة الإقتصادية التى تدخل عامها السابع, وأن الحزبين الكبيرين الشعبى الحاكم والاشتراكى - اللذين تناوبا على السلطة منذ نهاية الحقبة الفاشية- لم يقدما شيئا ملموسا لحلها, بل بالعكس فقد واجه كل منهما هذه الأزمة بقرارات تقشفية عنيفة خنقت المواطن الأسبانى, لذلك تجدهما الأن وللمرة الأولى، أمام تحد حقيقى, فحزب "بوديموس" بقيادة زعيمه بابلو اجلاسيوس الأستاذ الجامعى نجح فى أقل من عام واحد على تأسيسه أن يخترق الساحة السياسية بقوة محدثا مفاجأة بفوزه بخمسة مقاعد في الإنتخابات الأوروبية, وربما يعود هذا النجاح بشكل أساسى إلى إستراتيجية وشخصية بابلو إيجلاسياس، استاذ العلوم السياسية البالغ من العمر 35 عاما، والمعتاد على جلسات الحوار السياسية المؤثرة فى الإعلام الأسباني, فالشاب الطويل الشعر، تبنى أفكارا يتعطش إليها الكثير من الشباب الأسبان, فتراه يردد دائما شعارات مثل " نحن محكومون من قبل الأغنياء وما ينقصنا هو حكومة تضم ممثلين عن المواطنين". ويعتمد الحزب على التجمعات التى غذت حركة الغاضبين التى أنشئت فى مايو 2011 للتنديد بعدم قدرة الطبقة السياسية على الخروج من الأزمة الإقتصادية, وخطاب زعيمه لا يخلو من محاربة الفساد والدفاع عن حقوق المواطنين ومحاربة السلطات, وهو خطاب يصفه معارضوه بالغوغائى، بينما يرى القيادي الشاب تبريراته فى ستة ملايين عاطل عن العمل (حوالي 26%) وفى هؤلاء الذين لا يستطيعون سداد قروضهم فضلا عن عشرات بل آلاف من الشباب "المنفيين إقتصاديا" خارج البلاد. ولذلك جاء البرنامج الإنتخابي للشاب الصغير واضعا الشباب فى صلب إهتماماته, فقد إقترح على البرلمان الأوروبى، كإجراء أولى، تخفيض رواتب النواب من ثمانية آلاف يورو إلى 1930 يورو, وطالب القيادي الأسباني أيضا بحد أدنى للأجور و35 ساعة عمل إسبوعيا والتقاعد عند بلوغ 60 عاما، فضلا عن سيطرة برلمانية على المصرف المركزي الأوروبى، وإعادة توجيه النظام المالى بحيث تكون المصارف فى خدمة المواطنين. نتائج إستطلاع الرأى التى تصب فى صالح "بوديموس" أصابت الأحزاب السياسية الكلاسيكية بالرعب لأنها ستفقد التناوب السياسى على السلطة بعد أربعة عقود، بل والكثير من مظاهر الدولة الإسبانية فى حد ذاتها, فمن ضمن برنامج حزب "بوديموس" إجراء إستفتاء حول إستمرار الملكية أو العودة للنظام الجمهورى وإقامة الجمهورية الثالثة فى أسبانيا, وهو إستفتاء غير مضمونة نتائجه أن تصب فى صالح الأسرة الملكية التابعة للعائلة البوربونية، الفرنسية الأصل, فهذه العائلة فقدت كثيرا من بريقها خلال السنوات الأخيرة نتيجة عدد لا بأس به من الفضائح نالت من سمعة الملك السابق خوان كارلوس على المستوي الأخلاقى والسياسى, بدءا بنشر صور وأخبار عن قصة الحب التي تربطه بأميرة ألمانية سابقة وخيانته لزوجته الملكة صوفيا, هذا فضلا عن الأخبار التى كانت تنشر من آن لآخر عن علاقاته النسائية بصفة عامة وعن تعاطيه للخمور بشكل مبالغ فيه، أما أكثر الفضائح التي لحقت به فكانت قيامه برحلة لصيد الأفيال فى بتسوانا في سرية بالغة ودون حتى إخطار رئاسة الوزراء بها، وبلغت تكاليف هذه الرحلة 37 ألف يورو، فى وقت كانت تعانى فيه البلاد من أزمة إقتصادية حادة وبطالة وصلت إلى 52%. الفضائح طالت أيضا أعضاء مهمين في الأسرة المالكة حول علاقتهم برجال المال والأعمال ومن أشهر هذه الفضائح ما نسب إلى زوج الأميرة كريستينا إبنة الملك, الذى ثبت تورطه فى إختلاس أموال منظمة خيرية كان يديرها فى الفترة من 2004 إلى 2006، تم خلالها جمع 2.3 مليون يورو من التبرعات من أفراد من مؤسسات حكومية، وتم خلال هذه المنظمة تحويل أموال إلى الخارج. كل هذه الفضائح أدت فى النهاية إلى تنازل الملك عن العرش لإبنه الوحيد الأمير فيليب السادس, فإستطلاعات الرأى الأخيرة كشفت عن إنخفاض كبير لشعبية الملك خوان كارلوس، خاصة بين الشباب صغير السن الذي لم يعاصر فترات قوة ونفوذ الملك، ودوره المهم فى الحفاظ على الديمقراطية في إسبانيا، هذا فضلا عن تنامى مؤيدى تحويل إسبانيا إلى النظام الجمهورى، ليرث الملك الصغير تركة ثقيلة من التحديات والفضائح عليه مواجهتها بحكمة. المقربون من العائلة الإسبانية يرون أنه قادرعلى ذلك فهو يحظي على المستوى الشخصى بحب واحترام الشعب الإسباني لبعده عن الفضائح وتواضعه وجديته فى المهام التى توكل إليه، فلم يعرف عنه حتى في فترات شبابه أى فضائح أخلاقية، كما أن زواجه من مذيعة التليفزيون السابقة ليتيزيا، وهي من عامة الشعب، زاد من جماهيرته, غير أن فوز حزب "بوديموس" فى الإنتخابات البرلمانية القادمة سيؤرق كثيرا الملك الجديد وربما ينسف مجهوداته لعودة البريق إلى العائلة مرة أخرى.