كان الإمام محمد عبده يهدف إلى سد الثغرة القائمة فى المجتمع الإسلامى من أجل تقوية جذوره الخلقية، ولبلوغ هذا الهدف، رسم طريقاً واحداً هو الاعتراف بالحاجة إلى التغيير، وربط هذا التغيير بمبادئ الإسلام، وذلك لإثبات أن هذا التغيير ليس مما يجيزه الإسلام فحسب بل هو من مستلزماته الضرورية إذا ما فهم على حقيقته. ومن هنا انطلق تفكير الإمام، من قضية الانحطاط الداخلى، والحاجة إلى بعث الذات، وهو يرى أن المجتمع أنحط لسببين: الأول، دخول الإسلام عناصر غريبه عنه، والثانى، التطرف فى التمسك بمظاهر الشريعة أدى إلى تقليد أعمى بعيد عن حرية الإسلام الحقيقى. ولقد رأى أنه لتجديد الخطاب الدينى لابد من النظر فى شأن المؤسسات التى تهيمن على تدريس الدين، ومن هنا جاءت محاولاته من أجل إصلاح الأزهر، وارتبط سعيه هذا بنظرة عميقة لخطر الانقسام الذى يحدثه فى شخصية الأمة؛ ذلك الازدواج التعليمى القائم فى مؤسسات العلم بها، وهو الازدواج الذى نشأ بنشأة المدارس المدنية منذ محمد على، بعد عجزه عن إصلاح الأزهر، ومن هنا بقى الأزهر على ما كان عليه فى العصور الوسطى، فأصبح للأمة نمطان فى التعليم يمزقان شخصيتها إلى حد كبير، فكتب محمد عبده يقول: "أنه ليس أمام الناس من معاهد التربية إلا جهتان: المدارس الأميرية، ومدرسة الأزهر الدينية، وليس فى الجهتين ما يهديهم لما يجعلهم رعية صالحة". وكان هذا النوعان منفصلين أحدهما عن الآخر، كما كان كلاهما غير صالحين؛ فالمدارس الدينية يسودها الجمود فهى تعتمد على الحواشى والشروح على المتون القديمة إلى حد ما لكنها لم يكن لديها رؤية عصرية فى تدريس علوم الدين كما أنها لا تدرس العلوم الضرورية للعيش فى العالم الحديث، أما مدارس الإرساليات فكان الطالب يدرس بها دروساً أجنبية، ومما شك فيه أنه سيقتدى ذهنياً بناطقيها ويصبح غريباً عن أمته. وكان يكمن وراء هذا الانقسام بين المدارس انقساماً فى العقليات، فلقد كان هذان النظامان فى التربية قد خلقا طبقتين مختلفتين من المثقفين فى مصر، لكل منها عقليتها الخاصة: العقلية التقليدية المقاومة لكل تغيير، وعقلية الأجيال المتطلعة والقابلة لكل تغيير ولكل أفكار أوروبا الحديثة. ولكن إذا كانت أفكار محمد عبده لا تتعارض مع المبدأ القائل بتغيير الشريعة بتغير الزمن، فإنه رأى أن القوانين المزروعة فى غير أرضها لا تؤتى الثمر نفسه بل قد تفسد؛ لأنه كان يفترض أن الشرائع الحديثة ستنمو من ضمن الشريعة، لا باستقلال عنها، فكان يؤمن بتغير الشريعة ولكن ليس إلى الحد الذى يضيعها أو يؤدى إلى أن تتحول الأمة إلى شرائع أمم غيرها، فضلاً عن أنه كان يريد مشاركة متساوية، لا انفصالاً بين الحاكم وحراس الشريعة، وكان أيضاً موافقاً ودائم التأكيد على أن يتمتع غير المسلمين بالمساواة القانونية والاجتماعية التامة. وامتداداً لفكر الإمام الذي يقوم على بناء الوطن والارتقاء به ذاتياً؛ فإننا نراه يعرف الوطن بأنه "مكانك الذى تنسب إليه ويحفظ حقك فيه ويعلم حقه عليك وتأمن فيه على نفسك، وآلك ومالك...، ويرى أن نوال الشرف والسعادة والثروة لا يكون إلا بصلاح حال الوطن. وهو ينوه بالصلة الوطنية والشرف الذاتى الذى يوجب الغيرة على الوطن. ويشير محمد عبده إلى موجبات الحب للوطن والحرص عليه، وهى: أولاً: أنه السكن ومكان الأصل، وثانياً: أنه مكان الحقوق والواجبات التى هى مدار الحياة السياسية، وثالثاً: أنه سبب النسبة التى تحدد منزلة الإنسان، وبضوء هذه "وجب على المصرى حب الوطن من كل الوجوه". وعن علاقة السياسة بالدين ذهب محمد عبده إلى أنه ليس فى الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير عن الشر، ويقول فى نص آخر: "أصل من أصول الإسلام قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها، هدم الإسلام بناء تلك السلطة، ومحا أثرها، ولم يدع الإسلام لأحد بعد الله ورسوله سلطاناً على عقيدة أحد ولا سيطرة على إيمانه، والرسول عليه السلام كان مبلغاً ومذكراً، لا مهيمناً ولا مسيطراً". ولما كان محمد عبده مصرياً متأصل الجذور فى تقاليد بلاده، كان يرى أن انتساب غير المسلمين إلى الأمة لا يقل أصالة عن انتساب المسلمين أنفسهم إليها، وأنه يجب أن تقوم علاقات طيبة بين أبناء الأديان المختلفة. وخلاصة القول، كان محمد عبده يدعو إلى الوحدة الاجتماعية (الوطنية والدينية على السواء) وإلى توفيق جميع المصالح، وإن فكرته عن الأمة المصرية لا تعير العرق أى وزن، وهى نظرة إسلامية أصيلة. [email protected] لمزيد من مقالات حازم محفوظ