إذا كان الجدل فى الفلسفة هو طريقة للحوار تتولد من خلالها الحقائق بتلقيح أفكار العقول بعضها مع بعض دون أن يعنى ذلك إلغاء الواقع لأن خبرة الواقع تتمثل فى الكلمات التى تتداول فى الجدل، وإذا كان الجدل الفلسفى يهدف إلى الوصول للحقيقة، فإن الجدل الدائر حالياً فى معظم وسائل الإعلام يفتقد لوجود غاية. فلا الحقيقة بغيته ولا هناك طرح لرؤية للنهوض بالوطن، فماذا تعلّم هؤلاء الجدليون الجدد؟ لم يتعلموا حل المشكلات، ولا حتي الاقتراب من الحقيقة، لم يتعلموا سوى إغراقنا في بحر من الكلمات. تلك البداية أجدها ضرورية للتعبير عما تمر به معظم القنوات الفضائية من تيه، وفقدان للمعايير. فى الواقع، تحولت معظم منصات الفضائيات إلى ساحة معركة للأفكار، التى لا تحل جوهر الموضوعات؛ فأصبح مقدمو البرامج الحوارية؛ خاصة السياسية منها متحكمين فى النقاش والجدل العام، على حد تعبير مجلة ال "Foreign Policy"، لدرجة غدا مصطلح "الجدليون الجدد"، هو المصطلح الأنسب لتوصيف المشهد الإعلامى فى الوقت الراهن، ويبدو أن ثمة خطوات تفتقدها مجموعة من القنوات لتلحق بالركب الإعلامي الرشيد. وهذا ما أكد عليه رئيس الجمهورية فى لقائه بالإعلاميين بالقول: إن دقة المرحلة والظروف الحالية التي تمر بها المنطقة تقتضي الالتزام (بالضمير الفكري) الذى يفرض التناول الإعلامي بموضوعية وحيادية تامة، بغية إيجاد ظهير فكري مساند. وإذا كان صحيح أن التجارب التاريخية أثبتت أن الإعلام الوطني ساند وساعد علي تجاوز الظروف التي مرت بها مصر في تاريخها الحديث والمعاصر، فإن تجربة الإعلام الحالية؛ خاصة بعض القنوات الخاصة بعد ثورة 25 يناير وموجتها فى 30 يونيه، أثبتت أن التناولات الإعلامية لم تستطع تحقيق التوازن بين حرية الإعلام وتحمل مسئولياته الاجتماعية والأخلاقية. فبالرغم من أن الثورة وموجتها اتاحتا الفرصة لوجود العشرات من القنوات الفضائية، فإن قيم ومعايير الإعلام الموضوعى تظل غائبة عن معظم تلك القنوات؛ فبدلاً من تشكيل اتجاهات الرأى العام تجاه القضايا المجتمعية بحيادية، نجد بعضها، لسبب أو لآخر، تتعمد إثارة الرأى العام، فعلى سبيل المثال؛ فهناك من استباح أعراض من يختلفون معه تحت مسمى حرية التعبير، ولقد نسى - بقصد أو بدون - أن حريته تقف عند حدود حرية وأعراض الأخريين، فالحرية تتحرك أيضاً ضمن قوانين. ويرجع تفسير الوضع الإعلامي الحالى إلى الموارد الهائلة التي تم ضخها عن طريق رجال الأعمال - منذ ثورة يناير وحتى الآن - لإنشاء قنوات فضائية جديدة، للسيطرة على التوجه السياسي، وفى ظل مواجهة الضغوط لتقديم تنازلات يصبح التقيد بالقيم والمعايير المهنية أمراً ليس سهلاً، وهكذا تحول المشهد الإعلامى من نبض الشعب إلى نبض رجال الأعمال. وكانت من ضمن أخطار السيطرة على التوجه السياسى، تلك الحالة من الانقسام المجتمعى، إذ أن المصريين انقسموا على أنفسهم بشأن أسباب الأزمات وأسلوب التعامل الأمثل معها، ولقد تحولت حالة الانقسام تلك فى بعض الأحيان إلى حالات صدام بين المصريين بعضهم البعض؛ بسبب مهارة "الجدليون الجدد" أو قل بعض الإعلاميين ذو البعد الواحد، فى تطويع أى إشكالية لتحقيق ما يشبه الإجماع العام أو القبول، بمعنى جعل الرأى العام يوافق على أمور لا يرغب فيها من الأساس، ظناً منهم أن ذلك يخدم الصالح العام. فى الواقع، إن "الجدليون الجدد" لا يزالون فى وضعية من يوجه الطعنات إلى ذاته (الوطن)، لأنه من البديهى أن ينعكس التراجع المهني على المجتمع بأسره، والسؤال المطروح هو: لأية غاية نحن سائرون؟ وماذا بعد ذلك؟ يظل سؤالاً حاضراً. ولكن ما العمل؟ إذا كان التحقق من المعلومات وعدم خلطها بالآراء الشخصية عن طريق نهج علمى، أمراً صعب المنال فى الوقت الحاضر، وإذا كانت الموضوعية التامة باتت مستحيلة، فالأمل يبقى فى انتهاء "اللجنة الوطنيه للتشريعات الصحفية والإعلامية" من أعمالها فى أقرب وقت ممكن، وتشكيل "المجلس الوطنى للإعلام"، ذلك المجلس التى طالبت القيادة السياسية فى يوليو 2014 بسرعة إنشاءه؛ خاصة فى ظل غياب وزارة الإعلام. [email protected] لمزيد من مقالات حازم محفوظ