بخطوات ثقيلة ونظرات شاردة، ووجه متجهم، خرج ماهيندا راجاباكسا رئيس سيرلانكا السابق ليقر بهزيمته فى الانتخابات الرئاسية لصالح منافسه مرشح كتلة المعارضة ميثريبالا سيريسنا. ولم يكن السبب الأوحد فى الحزن البالغ الذى أصاب راجاباكسا هو هزيمته، بل أيضا لأنه هو من وضع نهاية حكمه بيده حينما دعا لانتخابات رئاسية مبكرة، والتى كان موعدها العام المقبل إلا أن ثقته العمياء فى شعبيته، وظنه بأنه أصبح المسيطر الأوحد على مقاليد البلاد، والأقدر على التحكم فى شعبه جعله يقامر بحماقة. ومن جانبه خرج المرشح الفائز سيريسنا ليشكر مؤيديه، الذين منحوه أصواتهم بعدما وجدوه مثالا للنزاهة، والاجتهاد، والعمل الجاد أثناء توليه عددا من الحقائب الوزارية، إلى جانب كونه واحدا من أبرز الوجوه الثورية التى ناضلت من أجل المطالبة بمستوى معيشى أفضل، وكل هذا كان كفيلا بمنحه فرصة ليصبح رئيسا للبلاد، ويدخل بها عهدا جديدا بعيدا عن ديكتاتورية سالفه. وقد كانت غالبية التوقعات تشير لفوز ماهيندا راجاباكسا، الذى كان يسعى للفوز بولاية ثالثة، وذلك لأنه يتمتع بشعبية كبيرة لدى الغالبية السنهالية "العرق الغالب بالدولة"، والذين يعتنقون الديانة البوذية التى تشكل نحو 70 ٪ من السكان، ويدينون بالفضل له فى إنهاء الحرب الأهلية التى استمرت 26 عاما ضد متمردى التاميل فى عام 2009، وهم حركة انفصالية كانت تقاتل ضد الحكومة بهدف الانفصال والاستقلال الذاتى. وبعد أن استطاع راجاباكسا القضاء عليهم، اتجه لتطوير البنية التحتية للبلاد من الطرق إلى خطوط السكك الحديدية ودعم السياحة، وشهدت معدلات الفقر انخفاضا ملوحظا. ولكن شهد الشارع السيرلانكى أخيرا تذمرا بين صفوفه بسبب تردى المستوى المعيشى والخدمات، كما كثرت الانتقادات له بعد مزاعم بتخويف الصحفيين والنشطاء، الذين اعترضوا على نهج المحسوبية الذى يتبعه راجاباكسا فى تعيين أقاربه ومعارفة بمناصب عليا بالدولة، خاصة أن شقيق راجاباكسا يشغل منصب وزير الدفاع، والذى لعب دورا محوريا فى إلحاق الهزيمة بمتمردى التاميل، ويعرف عنه أنه رجل ذو قبضة حديدية، ولا تعرف الرحمة طريقا لقلبه. وعلى صعيد آخر لم تمح المجازر الوحشية التى تم ارتكابها على أيدى راجاباكسا خلال فتره الحرب من ذاكرة شعبه، والتى طبقا لما ذكرته الأممالمتحدة، راح ضحيتها ما يقرب من 40 ألف مدنى قتلهم الجيش السيرلانكى لقمع التمرد. لذا فإن راجاباكسا الذى كان يعمل فى بداية حياته كمحام يدافع عن حقوق المظلومين، أصبح اليوم مدانا فى نظر شعبه، والتى قد يتم إعادة التحقيق بها بشكل أوسع ويحاكم عليها دوليا، وتزج به لسنوات خلف القضبان. أما الرئيس الحالى ميثريبالا سيريسنا فقد راهن على الأقليات، والتى تتمثل فى أحزاب المعارضة ومؤيديها، والتاميليين "ثانى عرق بالدولة"، والذى يشكل نحو 20 ٪ من السكان ويعتنقون الديانة الهندوسية، بالإضافة لعدد من الماليزيين والمورو، وهم أحفاد السكان الأصليين لسيرلانكا،والذين يشكلوا نحو 9٪ من السكان ويعتنقون الإسلام. لم تكن تلك الأقليات كافية لمنح سيريسنا الفوز حتى حدثت مفاجأة قلبت الموازين، ألا وهى تخلى الحزب الذى يتزعمه راجاباكسا، حزب الحرية السيرلانكى وقياداته، عن مساندتهم لرجاباكسا بعد مساندتهم له لفترة طويلة، فى الوقت الذى شهدت فيه أحزاب المعارضة توسعا ملحوظا وازداد أعضاؤها، كما قامت بحملة واسعة من الدعاية والإعلان لتقديم وإظهار مرشح المعارضة بشكل مكثف فى وسائل الإعلام. ولد ميثر يبالا سيريسنا، الرئيس السابع لجمهورية سيرلانكا، عام 1951، وكانت أولى خطواته فى عالم السياسة عام 1967 حينما انضم لحزب الحرية، ولم يكن عمره يتجاوز آنذاك ال 16 عاما، وشارك من خلاله فى إحدى المظاهرات المناهضة للحكومة وتعرض للضرب المبرح والكسر من قبل أحد عناصر الشرطة، والذى جعله طريح الفراش لفترة. وفى عام 1971، حيث لم يكن يتجاوز ال 19 عاما، سجن 15 شهرا لتورطه هو وعدد من شباب الحزب فى محاولة لزعزعة الاستقرار والمساس بنظام الحكم. جاء انغماس سيريسنا فى المطبخ السياسى حينما رشح نفسه فى الانتخابات البرلمانية علم 1989 عن منطقة بولوناروا، وتولى عددا من الحقائب الوزارية منذ عام 1994، حيث شغل فى العام ذاته منصب وزير الزراعة، وفى عام 1997 شغل منصب وزير التنمية، كما شغل منصب الأمانة العامة لحزب الحرية السيريلانكى. وبعد فوز ماهيندا راجاباكسا فى الانتخابات الرئاسية عام 2005 عين سيريسنا وزيرا للزراعة والبيئة، وفى عام 2006 وبعد حادث اغتيال وزير التنمية، أسندت إليه تلك الحقيبة الوزارية أيضا. وخلال فترة الحرب الأهلية السيرلانكية فقد تغير الوضع كليا، حيث تولى سيريسنا منصب وزير الدفاع، وبعد انتهاء فترة الحرب عام 2010 عين سيريسنا وزيرا للصحة حتى ترشحه للانتخابات الرئاسية الأخيرة. وطبقا لما ذكره سيريسنا، فقد تعرض لخمس محاولات اغتيال إلا أنه فى كل مرة كان ينجو من الموت بأعجوبة. وبفوز سيريسنا بالرئاسة تدخل سيرلانكا عهدا جديدا ويحمل هو عبئا ثقيلا حول كيفية إدارة البلاد داخليا، وعلاقات البلاد خارجيا. فعلى الصعيد الداخلي، هناك مخاوف من عودة شبح الحرب الأهلية مرة أخرى، خاصة بعد المعاناه التى لاقاها متمردو التاميل فى عهد راجاباكسا وإهدار حقوقهم الإنسانية وحرمانهم من المشاركة فى الحياة السياسية، وهو ما جعلهم يمنحون أصواتهم الانتخابية لصالح سيريسينا. ومن المؤكد سيطالبونه بإعادة حقوقهم، الأمر الذى سيتطلب الكثير من الحنكة والخبرة السياسية فى التعامل معهم. أما فيما يخص بالسياسة الخارجية فمن المتوقع أن تتصدر قائمة أولوياته العلاقات مع الصينوالهند، فقد كان جانب كبير من انزعاج الهند يرجع إلى تقرب الرئيس السابق من الصين، واستخدام علاقاته مع بكين كورقة ضغط على الهند. فطبقا لما تعهد به سيريسنا فى حملته الانتخابية، و أنه سيقيم علاقات متساوية مع الهندوالصين، كما وعد بفحص كل مشروعات البنية التحتية الكبيرة التى موّل الصينيون معظمها ليرى مدى جدواها الاقتصادية. سيريسنا، الذى حاول خلال خطاباته الانتخابية أن يكسب ثقة شعبة ويمنحهم الأمل فى حياة أفضل، وانتقد سالفه راجاباكسا، ووصفه بأنه كان مجرد رئيس ولم يستطع نيل الزعامة، واتهمه بأنه نهب هو أسرته الكثير من خيرات وثروات سيرلانكا، وتعهد بملاحقة كل من يجده متورطا فى فساد سواء إن كان من عائلة راجاباكسا أو لا، فإن أقواله وتعهداته ستظل مجرد كلمات حتى يقوم بترجمتها لأفعال.