إذا كان الفيلسوف الفرنسى "جان فرانسوا ليوتار" قد قال: "منحنا القرنان التاسع عشر والعشرون من الإرهاب قدر ما نحتمل... لقد دفعنا ثمنا باهظا... وتحت المطلب العام للنضوب وللتهدئة، يمكننا أن نسمع دمدمة الرغبة في العودة إلى الإرهاب"؛ فالقول نفسه ينطبق على القرن الواحد والعشرين. فها هى صحيفة "شارل إبدو" فى أول أعدادها بعد الهجوم عليها، تنشر على غلافها رسماً كاريكاتورياً جديداً يسخر من نبى الرحمة صلى الله عليه وسلم، متجاهلة لمشاعر جموع المسلمين عبر العالم الذين يكنون الحب والاحترام للنبي؛ والسؤال هو: هل الثقافة الغربية ليس لديها ضوابط لحرية التعبير؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا تم إقالة "موريس سينى" من صحيفة "شارل إبدو" عام 2008 بسبب كتابته لمقال تم اعتباره تحريضاً على الكراهية ومعاداة للسامية؟! إذن فكل مجتمع متحضر له ضوابط لحرية التعبير، والشواهد واضحة وجلية وأكثر من أن يحاط بها فى هذا المقال. وأتصور أن الاستمرار فى إعادة نشر الرسوم المسيئة للمقدسات الإسلامية يعد تطوراً خطيراً مناهضاً للقيم الإنسانية النبيلة، ويعمق مشاعر الكراهية والتمييز بين المسلمين وغيرهم، بل إن إعادة نشر تلك الرسوم ما هو إلا تغذية متعمدة للتطرف ولا يندرج تحت حرية التعبير. فى الواقع، لقد دأبت وسائل الإعلام الغربية بتقديم صورة غير حقيقة عن الإٍسلام من خلال ترسيخ فكرة أنه دين عنيف وعدوانى مفطور على الإرهاب؛ خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، فقام رسامو الكاريكاتير مثلاً على إلباس عباءة أسامة بن لادن لكل من يتحدث باسم الإسلام ليبدوا وكأنه هو الصورة النموذجية للمسلم الحق، مما ترك أثراً بالغاً فى الوعى الجماهيرى، ورسخ مفهوم الإرهاب، وهذا ما أكد عليه "أوليفر سيران" - الصحفى الذى كان يعمل فى صحيفة شارل إبدو – بقوله: إن كراهية الإسلام قد استغرقت صحيفة شارل إبدو تدريجياً بعد أحداث 11 سبتمبر. وكانت من النتائج المترتبة على هذا سواء تجاه الأفراد أو المؤسسات، النظر إلى الإسلام على أنه كتلة أحادية جامدة لا تستجيب للتغيير، والنظر إليه أيضاً على أنه ليس به قيم مشتركة مع الثقافات الأخرى، وعلى ذلك تم استخدام العداء تجاه الإسلام لتبرير ممارسات تمييزية تجاه المسلمين واعتبار ذلك أمراً طبيعياً ومبرراً، كان آخره تصريح ل "جون ماكين" لنيويورك تايمز و CNN بعد الهجوم على صحيفة شارل إبدو، يقول فيه: "إن الوقاية تتطلب استراتيجية عسكرية أمريكية أكثر عدوانية في جميع أنحاء الشرق الأوسط الكبير، ومزيد من القوات في العراق وأفغانستان". والواقع، إن مثل تلك التصريحات تحتوى على مغالطات تاريخية كبرى، فإذا كان "جون ماكين" يحاول أن يقول أن المسلمين عدوانيون ويتربصون بالغرب؛ فإن الغرب تاريخياً كان هو الطرف العدوانى والمتربص فى كل العصور، ومعظم الدول التى أدخلها تحت سيطرته أصابها من تدمير البنية التحتية قدراً أعاق قدرتها على التنمية والصعود لفترات طويلة؛ إذ أنه ابتداء من سنة ألف وخمسمائة ميلادية بدأ التوسع للغرب، وقد تمكن أثناء ذلك من الهيمنة على أغلب الأمم والحضارات وإخضاعها لسلطته الاستعمارية، وفى بعض الحالات دمر الغرب تلك الحضارات، بدلاً من أن يكون مثالاً يقتدى نحو النزعة الإنسانية، والتاريخ الحقيقى. وعلى الرغم من أن العلاقة بين الدول الإسلامية والغرب شهدت فصولاً ليست بالقصيرة من الصراع والاحتقان، وصلت فى كثير من الأحيان إلى المجابهة العسكرية؛ فإن الواقع المؤلم الذى أصبحت فيه الدول الإسلامية ووضعها فى موضع الاتهام، وبحيث أصبحت ساحتها ساحة يعبث فيها كل من شاء؛ لا يجعل الغرب وحده الذى يتحمل المسئولية، وإنما يقع عبء المسئولية كذلك على الدول الإسلامية نفسها، لأنه كما تقول الحكمة اللاتينية القديمة "إن خطأ الآخر فى حقك لا يعفيك من المسئولية". [email protected] لمزيد من مقالات حازم محفوظ