مازالت الديمقراطية عصية على المجتمعات العربية فإذا كان الربيع العربى قد أسقط بعض الأنظمة إلا أنه كشف بشكل دامغ إشكاليات الديمقراطية المتعلقة ببنية المجتمع الداخلية نتيجة إعاقات اجتماعية وثقافية مستوطنة فى الواقع العربي، فما أن انهارت الأنظمة السلطوية حتى برزت هذه التحديات فى الصراعات الداخلية أو التدخلات الخارجية. ووجود تعطل مشروع ديمقراطية العالم العربى الى حقب عدة اختلفت فيما بينها باختلاف المبررات التى حالت دون حدوث التحول الديمقراطى بداية من الاستعمار الذى ورث من الدولة العثمانية البلاد العربية فى حال تراجع حضارى وبسط هيمنته على مصر ودول المغرب العربى وضرب المشاريع المتعددة للتحرر الوطني، وقام بفتح انتهاء مرحلة الاستعمار الغربى آفاق التقدم الحضارى والتحول الديمقراطى فالاستعمار أعقبته حقبة المشروع القومى الذى لم يكن بطابع مانادى به بعض المصلحين أمثال عبد الرحمن الكواكبى الذى زاوج بين القومية والحرية فلم تكن الديمقراطية ضمن مفرداته السياسية ولم يبن على مشروع الإصلاح الذى تبناه بعض رواد الإصلاح أمثال محمد عبده، والذى كان يهدف الى تحرير العقل وتعميق ثقافة الديمقراطية عن طريق إصلاح مفاهيم التربية والتعليم بل اتخذ مسارا مغايرا بدعوى استكمال مرحلة تحرر الأوطان! لقد اسمهت السياسة الشمولية التى تم تبنيها فى تشويه البنية الثقافية للمجتمع ولعب على التوتر العاطفى للشعوب اذا وعدتهم بالتوازن الاستراتيجى مع العدو الإسرائيلى وتحرير فلسطين واستعادة المقدسات ومقارعة المشاريع الاستعمارية والصمود والتصدي! وغير ذلك من التعابير المشوقة التى تجتذب الجمهور وفى مقابل هذه الوعود البراقة بتأميم التنوع السياسى والاجتماعى فألغت الأحزاب السياسية وجففت منابع التعددية الفكرية وتمت الاستعاضة عن ذلك بتنظيم أحادى للممارسة السياسية هو الاتحاد الاشتراكى فى مصر وحزب البعث فى سورياوالعراق فحلت الأيديولوجيا مكان الثقافة والصراع مكان التنوع والطبقة مكان الفرد والتحرر والبعث فى سورياوالعراق فحلت الأيديولوجيا مكان الثقافة والصراع مكان التنوع والطبقة مكان الفرد والتحرر الوطنى فى مقابل الحرية السياسية وقد أدى هذا الطابع المركزى إلى ضعف الوعى بمفهوم الدولة التى اختزلت فى التنظيم الذى له حقوق الدولة! وبناء على هذا الفهم راح كل ماهو خارج التنظيم يتقوقع أكثر حول الذات بل وتولد الشعور بالاغتراب عن الدولة مما أدى الى تعميق النزعة الطائفية على حساب المواطنة الى جانب توظيف الطائفية الدينية فى بعض الأوقات لصالح الأنظمة السلطوية الحاكمة مثلما فعل النظام البعثى السورى فى الدمج بين الطائفية المذهبية والتوجه القومى فاعتبر كل من هم خارج المذهب أعداء للوطن يريدون النيل منه!! وللقضاء على المذهبية والطائفية والأديان ولن تكون هناك علمنة للدولة إلا من خلال علمنة الوعى أى الاعتراف بالقوانين والنواميس التى تحكم الحياة الدنيا ( الطبيعة والإنسان والمجتمع والتاريخ) وبالتالى التعامل معها بما يحقق مصلحة الإنسان والمجتمع، وهى بالطبع عملية ليست بالسهولة والبساطة التى يتصورها البعض فعلمنة الوعى هى عملية ثقافية اجتماعية سياسية طويلة ومتدرجة مرت وتمر بصعوبات ومعوقات متعددة منها ما يتعلق بدرجة التعليم والثقافة، ومنها مايتعلق بهيمنة أيديولوجية دينية أو غيرها أو بحال سياسية تعرقل أو تشجع «صيرورة» هذا الوعي. إن علمنة الوعى بهذا المعنى هى فى مقابل الوعى الدينى والمذهبى عندما يتخذ طبيعة أيديولوجية شاملة تهدف إلى السيطرة على الوعى الإنسانى والتضييق عليه ليصبح فى حالة ارتياب من فكرة العلمنة فالعنصرية التى عرفتها الولاياتالمتحدةالأمريكية وجنوب إفريقيا كانت تقاوم وعى المجتمع بالحقيقة الطبيعية للإنسان وأن لون هذا الإنسان لايعبر عن جوهره ولا عن شخصيته وفى منطقتنا هناك حالة طائفية فى الإسلام، وهى مثال آخر على وعى دينى منحرف يجعل من المذهب الأصل فى جوهر الإنسان وليس الإنسان نفسه بتكوينه وطبيعته هذه الحالة نعيش مأساتها الآن فى العراقوسوريا بشكل خاص، ولكن العلمنة فى واقع الأمر عملية لاتتوقف قد تتعثر أو تتباطأ لكنها لم تتوقف فى الماضى ولن تتوقف فى الحاضر فعلى سبيل المثال هناك التداوى بالسحر أو الاستعانة بالجن والتعويذات والخوف من العين وهذه المعتقدات مازالت موجودة لكن انتشار الطب ومؤسسات العلاج الحديثة مستمر ويضيق مساحة هذه المعتقدات والممارسات وهى علمنة مستمرة وكذلك انتشار التعليم والشركات والمصارف وأسواق الأسهم والتأمين ومؤسسات الإعلام والثورات التكنولوجية التى كلها تحتكم فى صيرورتها إلى معطيات وقوانين دنيوية خالصة دون أن يعنى ذلك اختفاء الوعى الدينى وتلاشيه. وفى ظل غياب الوعى المعلن ستظل الديمقراطية عصية على المجتمعات العربية و هذا الغياب توظيف الطائفية والمذهبية فى التفاعلات السياسية وهو مايتطلب تجاوزه و إدراج أخطاره على المجتمع كله ومن ثم فاننا فى حاجة الى عقد اجتماعى مدنى يستند إلى إعلاء قيمة المواطنة بصرف النظر عن المذهب والطائفة والدين ففى الأنظمة الشمولية يغيب معنى الوطن الذى يجب ألا يكون على مقاس فرد أو عائلة أو جماعة وإنما يمتد الى كل من يتنفس هواءه ويستظل سماءه فهل نحن بعدالربيع العربى نقترب من هذا المعنى أم أنه مازال حلما بعيد المنال!؟. د. عماد إسماعيل