فى مدينة القيروان بتونس انعقدت ندوة دولية فى 24 أكتوبر 2001، إثر أحداث 11/9 بنيويورك بأكثر من شهر. وهذه المدينة مشهورة بجامع القيروان الكبير الذى أنشأه الفاتح عقبة بن نافع فى عام 670 ه. والجامع مشهور بأنه جامعة علمية وثقافية استطاعت استقطاب العلماء والمفكرين. ومن هنا جاء عنوان الندوة » الفلسفة وحقوق الانسان«. وعندما تُذكر الفلسفة يُذكر العقل. ومن هنا ثانياً يثور التساؤل عن علاقة العقل بأحداث 11/9، وهو تساؤل يتجاوز القيروان كما يتجاوز نيويورك. ومن هنا ثالثاً جاء عنوان بحثى «ابستمولوجيا حقوق الانسان». وهنا يلزم إثارة سؤالين هما على النحو الآتي: ما معنى الابستمولوجيا؟ وما معنى حقوق الانسان؟ نبدأ بالسؤال الأول: ما معنى الابستمولوجيا؟ هذا لفظ معرب عن اليونانية، وهو مكون من مقطعين: épistêmê بمعنى المعرفة النظرية، وlogos بمعنى النظرية أو العلم أو العقل. والمقطعان معاً يعنيان نظرية المعرفة على نحو ما هو وارد فى اللغة الانجليزية، أو فلسفة العلوم على نحو ما هو وارد فى اللغة الفرنسية. وأيا كان التباين فى المعنى بين اللغتين فالرأى الشائع أن نظرية المعرفة هى أساس البحث، فهى تبحث فى أصل المعرفة وحدودها. السؤال عن أصلها يعنى البحث فيما إذا كانت المعرفة آتية من العقل أم من الحواس أم منهما معاً. والسؤال عن حدودها يعنى البحث عما إذا كانت المعرفة ممكنة أو التشكيك فى إمكانها. وإذا كانت ممكنة فهل العقل، فى هذه الحالة، يكون قادراً على قنص الحقيقة، أو بالأدق قنص الحقيقة المطلقة؟ وبسبب هذا السؤال ارتبطت المعرفة بالحقيقة المطلقة. هذا جوابى عن السؤال الأول فماذا عن جوابى عن السؤال الثانى: ما معنى حقوق الانسان؟ إنها تعنى أن للإنسان حقوقاً بغض النظر عن موطنه أو جنسه أو عِرقه أو لغته أو دينه، ومن ثم فهى حقوق طبيعية. وقد روَج لهذا المعنى الفيلسوف الإنجليزى جون لوك من القرن السابع عشر، إذ ارتأى أن للإنسان حقوقاً لا يخلقها المجتمع كما لا يخلقها العرف الاجتماعي. ويأتى فى مقدمة الحقوق الطبيعية حق الحرية من حيث هو أساس العقد الاجتماعى الذى يلتزم الدفاع عن هذا الحق وغيره من الحقوق الطبيعية الأخرى مثل حق المِلكية وحق العمل. وفى مقابل التزام المجتمع بالدفاع عنها كان أعضاء المجتمع ملزمين بالتنازل عما يتنافر من حقوقهم مع حال المجتمع وذلك هو حق الاقتصاص الذى هو مسئولية السلطة القضائية، ومن قبلها مسئولية الدولة فى تحقيق الأمن والأمان. ثم تطورت نظرية لوك عن العقد الاجتماعى فى «الاعلان العالمى لحقوق الانسان» الذى أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة فى 10/ 12/ 1948 حيث البند الثالث من البنود الثلاثين ينص على حق الحياة والحرية والأمن. إلا أننى أريد إدخال تعديل فى هذا البند بحيث يصبح حق الحياة بنداً قائماً بذاته ويأتى فى صدارة الاعلان وذلك لسببين: السبب الأول أنه بدون الحياة لا حرية ولا أمن ولا أى حق من الحقوق الأخرى. والسبب الثانى أن الأصولى يتوهم امتلاك الحقيقة المطلقة، وبالتالى يتوهم أن تكون لهذه الحقيقة السيادة، ومَنْ يرفض هذه السيادة يصبح مهدداً لوجود هذه الحقيقة الأمر الذى يتطلب تكفيره فى الحد الأدنى وقتله فى الحد الأقصى. سلب حق الحياة إذن فى صميم «فكر» الأصولي، ومن ثم فقتله مشروع ولازم. وهذا الذى أقوله هو على الضد من القانون الجنائى الذى يشترط «ارتكاب الجريمة» وليس «التفكير» فى ارتكابها، وهو شرط وارد أيضاً فى قانون العقوبات. والسؤال اذن: هل من حق الإرهابى الأصولى سلب حق الحياة من الآخر المقاوم له وذلك بقتله؟ وهل يلزم تعديل القانون الجنائى بحيث ينص على سلب حق الحياة من الأصولى قبل أن يفكر فى قتل المقاومين لحقيقته المطلقة؟ أظن أن الجواب بالإيجاب. ولا أدل على ذلك من تأسيس التحالف الدولى ضد الارهاب «داعش». فالتحالف يقتل بلا محاكمة. حق الحياة إذن ينبغى أن يكون فى الصدارة، ولكى يكون فى الصدارة يلزم «غسل العقل» من لوثة الارهاب بحيث يكون لدينا عقل غير ملوث. والسؤال بعد ذلك: مَنْ الذى يقوم بتلويث العقل عملياً؟ إنه الوهابية منذ القرن الثامن عشر والاخوان المسلمون منذ القرن العشرين وفروعهما من تنظيم القاعدة إلى داعش مروراً بحزب الله وحماس و بيت المقدس. وأصلهم جميعاً هو ابن تيمية من القرن الثالث عشر. إنه أبو الأصولية فى العالم الإسلامى، إذ هو يلتزم التفسير الحرفى للنص الديني، أى يلتزم إبطال إعمال العقل فى ذلك النص، ومن ثم يرفض تأويله لأنه، فى رأيه، يعنى صرف النظر عن ظاهر ذلك النص والبحث عن باطنه. وهذا أمر لا لزوم له لأن آيات القرآن كلها واضحة فى معناها وليس فيها باطن. ثم إن التأويل، فى رأيه، تحريف لكلام الله، وبالتالى يكون مخالفاً لما أجمع عليه سلف الأمة. ومن هنا يصبح التحالف بين الوهابية والاخوان المسلمين من جهة وحزب النور من جهة أخرى ممكناً بل لازماً، ويصبح حق الحياة فى مهب الريح. وتأسيساً على ذلك كله يمكن القول بأنه أصبح من اللازم إحداث تغيير فى الاعلان العالمى لحقوق الانسان وفيما تفرع عنه من منظمات أطلقت على نفسها منظمات حقوق الانسان غير الحكومية. والتغيير المطلوب هو أن يكون حق الحياة فى صدارة الاعلان فى مواجهة الارهاب الأصولى الذى أصبح ارهاباً كوكبياً لا يهدد حرية الانسان بل يهدد وجود الانسان. وهذا هو التحدى الذى ينفرد به القرن الحادى والعشرون دون غيره من القرون. لمزيد من مقالات مراد وهبة