إنه سميح القاسم، الاسم العلم، آخر شعراء المقاومة في فلسطين من الرعيل الأول. أولئك الذين حملوا في شعرهم آلام ومآسي الشعب الفلسطيني وحملوا أحلامه في الحرية التي لا شفاء منها ولا بديل عنها. غادر سميح القاسم الحياة بعد ثلاثة أعوام من المرض والمعاناة ومن الكفاح من أجل الحياة، وخسر العالم العربي وخسرت فلسطين في غيابه كبيرا من أعلام الشعر العربي الحديث. وخسرت أنا صديقا من زمن كانت قد بدأت تتكون فيه علاقة من نوع فريد بين شعبين عربيين شقيقين هما الشعب اللبناني والشعب الفلسطيني في كفاح توحدت فيه، في الصواب وفي الخطأ، مطامحهما في الحرية والتقدم، واحتلت الثقافة في ميادينها المختلفة في هذا الكفاح الوطني التحرري المشترك دورا غير مسبوق. لقد اختار سميح القاسم منذ شبابه الباكر برفقة صديق عمره محمود درويش أن يكون شاعر قضية وشاعر إنسان وشاعر هوية وشاعر هوي وحب وجمال لكن اختياره البقاء داخل اسوار الوطن المغتصب لم يكن قسريا، بل كان طوعيا بكل المعاني كان قرارا صعبا، لكنه كان قرارا صائبا، كان بمقدوره أن يغادر سجنه الطوعي في الاتجاه الذي سلكه في ظروف صعبة الملايين من أبناء شعبه إلي أماكن الشتات المتعددة مناطقها في العالم غير أنه فضل البقاء في المنفي داخل الوطن إلي جانب من بقي من شعبه فيه وطنه المغتصب حين قال بأعلي الصوت: لا وطن أنت ولا بيت، ولا حبيبة أما فهمت بعد؟ صلية نار، صرخة، زنزانة لا وطن أنت ولا بيت ولا حبيبة يا حارس الجبانة حزن وهور وسكوب وسهرة صاخبة وفرحة وجثة ونور كل الذي ورثت من أمس لبعد الغد أما فهمت بعد؟ لا وطن أنت، ولا بيت، ولا حبيبة مجزرة دهرية تمتد ورحلة في الوجد فابك علي الحبيبة ابك علي الحبيبة لكن رثاءه الوجودي هذا للوطن المغتصب ترافق مع تمرد وثورة أعطاهما صفة ودور ووظيفة المقاومة حتي النصر، النصر الذي ما زال في ساحة الانتظار الأبدي يحبو وسط الآلام والأوهام نحو غد مشرق آت لا محالة. مرفوع الهامة امشي في كفي قصفة زيتون وعلي كتفي نعشي وأنا أمشي وأنا أمشي وأنا أمشي كنت منذ مطالع ستينيات القرن الماضي أتابع بشغف وبتقدير كبير من خلال الصحافة العربية، لا سيما منها الفلسطينية التي كانت تصلني في مقر عملي في فيينا في القيادة اليومية لمجلس السلم العالمي، ما كان قد ابتدعه سميح القاسم مع رفاقه الشعراء أبو سلمي وتوفيق زياد ومعين بسيسو وكمال ناصر ومحمود درويش من شعر حديث أطلق عليه ووثقه بإتقان الروائي الشهيد غسان كنفاني في كتابه الشهير «أدب المقاومة» وكان ذلك الشعر بامتياز شعرا فلسطينيا مقاوما، وكان الشعراء الذين كان سميح القاسم واحدا منهم هم أبطال ذلك الشعر المقاوم. وكان لذلك الشعر دور بالغ التأثير في كفاح الشعب الفلسطيني من أجل الحرية، لا سيما في المرحلة التي انطلقت فيها الثورة الفلسطينية الجديدة في مطلع عام 1965، وسرعان ما انضم إلي هذه الكوكبة من الشعراء في الاتجاه ذاته عدد من الشعراء الفلسطينيين وعدد من الشعراء اللبنانيين كان أبرزهم شعراء الجنوب. في مطالع السبعينيات تعرفت إلي سميح بعد أن كنا قد أصبحنا صديقين بالمراسلة ورفيقين في الهم الوطني الثوري وفي اعتبار المقاومة، كل منا علي طريقته وبنوع سلاحه الثقافي، طريقنا إلي الحرية، اكتشفت فيه آنداك عن قرب ذلك النموذج الرائع للمثقف الذي كان يجمع في حياته بين سحر الكلمة التي يمتاز باستخدامها الشعراء في كل العصور وبين شخصية المناضل اليساري المؤمن بأن مستقبل بلاده في الحرية والتقدم والعدالة هو جزء لا يتجزأ من مستقبل البشرية برمتها. قرأت كل دواوين سميح القاسم أو هكذا يخيل إلي، وقرأت كتاباته النثرية التي كان ينشرها في جريدة «الاتحاد» وفي مجلة «الجديد» وفي مجلات عربية أخري، وقرأت ما كنا قد نشرناه له في مجلة «الطريق» من قصائد ومن مقالات وأحاديث، ورغم أنني لست ممن ينتمون إلي طائفة النقاد، فإنني كقارئ شغوف منذ مطالع شبابي أشهد بأن سميح القاسم كان واحدا من رموز حركة الشعر الحديث بأسلوبه هو بالطبع، أسوة بسواه من الشعراء، وبطريقته هو في اختيار مواضيع قصائده ومناسباتها ووجهته فيها، وكان يحتل ذلك الموقع في معرفتي به بصفته شاعرا صاحب رسالة ومناضلا ثوريا ينتمي إلي حركة اليسار. وإذا كان من غير الصواب في هذه اللحظة بالذات، لحظة وداعه، التوسع في الكلام عن سميح القاسم في الاتجاهات التي سلكها، فإنني لا أستطيع إلا أن أشير، مجرد إشارة، إلي تلك التعرجات التي رافقته في العقود الثلاثة الأخيرة من حياته، وهو ما عبرت عنه بعض كتاباته وبعض مواقفه وبعض قصائده، لكن سميح لم يكن الوحيد فيما جري له من تعرجات في حياته، إذ سبقه إلي ذلك أحد أساتذته الكبار الأديب والمناضل اليساري العريق الروائي إميل حبيبي وكعادتي في علاقاتي مع أهل الثقافة من رفاقي في الموقع الفكري والسياسي ومع الآخرين من اتجاهات فكرية وسياسية مختلفة، فقد بقيت أمينا وحريصا علي العلاقة ذاتها منذ نصف قرن مع سميح ومع الآخرين. وجهة نظري في هذا الموضوع تتلخص بأن مثل هذه الحالات هي طبيعية إذا ما أخذنا في الاعتبار ما يمكن أن يواجه المثقف علي وجه التحديد من أحداث وتحولات تترك تأثيراتها عليه في اتجاهات مختلفة، فمنهم من يبقي ثابتا في موقعه وموقفه ومنهم من يدخل في تعرجات. وعلينا أن نحترم أوضاع وخيارات أولئك المثقفين، وقد واجهتني مثل هذه الحالات مع إميل حبيبي قبل سميح القاسم في فلسطين، وواجهتني مع آخرين من مثقفين كبار عرب وأجانب، وبقيت أمينا وثابتا في علاقتي مع الجميع، ودخلت معهم جميعهم من موقع الصداقة في سجالات وخلافات واختلافات. قبل عامين سألت أحد الأصدقاء الفلسطينيين عن سميح القاسم، فأخبرني أنه يعاني من مرض خبيث، فأحزنني ذلك، واغتنمت فرصة وجودي في القاهرة وفي عمان للاتصال به. وتحدثنا في أمور حرصت ألا يكون المرض واحدا منها. وكان آخر حديث بيننا في العام الماضي عندما كنت في عمان، سألته متجاهلا وضعه الصحي عن قصد عما إذا كان بإمكانه ملاقاتي في عمان فأجابني بحسرة ومرارة وبحب وشوق للقاء بيننا، «هل تتصور يا كريم أنني أنا القاعد في منزلي بانتظار آخر أيامي سأتمكن من ملاقاتك في عمان طيبت خاطره وحزنت وبدأت أكافح ضد ذلك الزمن الذي سيعلن مجئ اللحظة التي ستفجعنا برحيله، وها هي قد جاءت. سيظل سميح القاسم بعد رحيله، إلي جانب من رحلوا قبله من الرواد الكبار في حركة الحداثة في الشعر وفي الرواية في كل ميادين الثقافة، سيظل مع هؤلاء في تراثه وتراثهم نموذجا رائعا للدمج العقلاني بين دور المثقف صاحب الرسالة ودور المناضل الثوري من أجل التغيير. لمزيد من مقالات كريم مروَّة