للمرة الثالثة خلال ست سنوات تطلق إسرائيل نيران الهمجية والغضب البدائى بكل القسوة وكل الشراسة على مليون وسبعمائة ألف أعزل فقير.. محاصرين فى غزة.. قتلا وتدميرا وهدما وترويعا. وبدلا من الإدانة الدولية الواضحة لمثل هذه الهمجية المتناهية.. والتى تنتهك كل المواثيق والمباديء القانونية المتعارف عليها.. فإننا نجد من يتحدث عن حق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها... وأن المقاومة هى المعتدية بإطلاقها الصواريخ.. البعض كان أكثر استفزازا للروح الإنسانية والضمير البشرى وهو يطالب إسرائيل بضبط النفس.. أى ضبط للنفس هذا التى تطالب به إسرائيل وهى التى غدرت باتفاق التهدئة (2012) وهى التى اعتدت وبغت وهى التى صنعت الذريعة الكاذبة التى روجت لها عن اختطاف المستوطنين. وقد فعلت كل هذا على الرغم من الاعتقاد الحقيقى من المراقبين المستقلين أن ما حدث مع الشباب الإسرائيلى قد يكون من تنفيذ فلسطينيين غير منتسبين لحماس بل وقد يكونون ليسوا من غزة فى الأساس... وقد تم التأكيد من حماس لأوساط الدبلوماسية فى الغرب أن تلك الجريمة المروعة افتعلها نيتايناهو لتكون ذريعة لإطلاق العنان لحملة واسعة ضد حماس بغرض إتمام عملية الضم الفعلى لمعظم الضفة الغربية. ومعاقبة القيادة الفلسطينية فى الضفة لتحدى حكومته وتحديه هو شخصيا.. لتحقيق قدر من المصالحة بين السلطة فى الضفة وحماس فى غزة. على الفور بدأت الحملة المتطرفة.. المتناهية الشراسة ضد حماس وغزة... وكل من كانت من تريد إسرائيل اعتقاله فى الضفة الغربية والقدس الشرقية وسط صيحات عنصرية مقيتة من المسئولين ووسائل الإعلام للانتقام من الفلسطينيين. ووسط هذا (السعار غير الإنساني) كان على الحكومة الإسرائيلية أن تقوم بحملة واسعة النطاق من العقاب الجماعي.. والعقاب الجماعى فى حد ذاته (جريمة حرب).. فألقى القبض على مئات من الفلسطينيين وهدمت عشرات المنازل من منازل المقاومة وغارات كثيفة على المدينة كلها. من تصاريف القدر أن يتم هذا الاعتداء الهمجى الشرس بعد أيام قليلة من اعتداء بدائى عنصرى مقزز.. قامت به أسرة المستوطنين اليهود على الشاب (محمد أبو خضير 16 عاما) الذى أحرقوه (حيا).. وتتم الآن ترتيب المسألة حتى يبدو القتلة الهمجيون (يعانون من اضطرابات نفسية).. وكل ما فى الأمر أنهم كانوا صورة دقيقة لما تحويه مشاعر أغلب الإسرائيليين تجاه الشعب الوحيد فى العالم (الآن) الذى مازال يقع تحت الاحتلال من شعب آخر. بل يكفى طريقة القتل نفسها للتدليل على ما يعانيه هذا الشعب الأعزل الفقير من مشاعر عنصرية بغيضة.. (احرقوه حيا).. لا غرابة اذن فيما نراه من جنون العنف الذى يمارسه الحكام وقادة الجيوش.. حيث مئات القتلى أكثر من نصفهم نساء وأطفال وتقريبا كلهم مدنيون وآلاف الإصابات والتشوهات البدنية.. وما لا يحصى من الإصابات النفسية.. مع العلم أنه لا توجد ملاجيء مجهزة فى غزة للحماية من القصف ووقف تلك الغارات المجنونة.. من العار والخسة أن يتم طرح المسألة وإخراجها بهذا الشكل غير الصادق، بل ويسهم فى هذا الإخراج إعلاميون ودبلوماسيون.. ويتم التحدث عن حماس وغزة كطرف مساوى لجيش نظامى بشراسة وقسوة وعنصرية الجيش الإسرائيلي.. الذى ينظر أفراده لباقى البشر على أنهم مجموعة من (الأغيار) المستباحى الحقوق والأعراض.. ومنذ الإعلان عن قرار التقسيم (1947) وحتى ما نراه اليوم فى غزة.. قامت إسرائيل على مرأى ومسمع من العالم كله.. بارتكاب مجازر مهولة ومخزية للنوع الإنسانى كله.. من مذبحة بلدة الشيخ ودير ياسين إلى اليوم مرورا بمذابح المسجد الأقصى التى تكررت مرارا ومذبحة جنين.. وماحدث للمخيمات فى لبنان (صابرا وشاتيلا وقانا)... كل هذه المذابح والمجازر تشير إلى أننا أمام نوع من البشر يستهينون بدماء غيرهم من (أهل الأديان الأخري) استهانة لا مثيل لها فى التاريخ الإنساني.. استنادا لأساطير تؤسس فى وعيهم أنهم أرقى أنواع الآدميين.. ومازال لهذه الأساطير مروجون ودعاة فى الأوساط الإعلامية فى الغرب الأوروبى والأمريكي.. والأخطر أنهم لازالوا ينشئون عليها أطفالهم فى المدارس ومراكز التعليم والتثقيف.. وهكذا رأينا ونرى كل يوم إذا كان الأمر يتعلق بالفلسطينيين وإسرائيل فلا مكان للقانون والعدالة وحقوق الإنسان.. والمواثيق الدولية والأعراف المعتبرة حتى فى حالات الاحتلال.. والحروب.. الولاياتالمتحدة الراعى والداعم المكشوف وغير المشروط لإسرائيل ليس لديها أى مصداقية ولا حياد للقيام بدور الوسيط.. وهو دور بات مشكوى فيه تماما بل ومحل اتهام وإدانة.. وعلى كل ذلك.. لم تظهر إسرائيل أى اهتمام.. لمعرفتها التامة والدقيقة.. بأن حماس تمر بظروف سيئة أضعفتها التطورات الأخيرة فى مصر وأماكن أخرى فى المنطقة.. وستواجه باليأس الأسود من الناس والرعب فى قطاع غزة مع نظام معيشى على وشك الانهيار الكامل. على أساس ما نراه الآن من حجم الاستجابة العالمية المخيبة للأمل لهذا العدوان الإسرائيلي.. فإنه ينبغى التأكيد كل يوم وكل ساعة أن النضال الفلسطينى من أجل تقرير المصير والعيش فى وطن.. هو حق لن يتم النقاش حوله.. ويحتاج أن يصل إلى أسماع العالم كله. فى كل مكان خاصة على مستوى الشعوب والحركات التحررية.. ينبغى تحريك الرأى العام فى كل مكان إلى ضرورة مقاطعة إسرائيل والضغط عليها بكل الوسائل لرفع الحصار المخزى عن غزة.. وعلى الجمعية العامة للأمم المتحدة أن توصى بفرض حظر للأسلحة على إسرائيل.. وهذا فى حد ذاته موقف رمزي.. بالإشارة إلى أن إسرائيل من أكبر الدول المصدرة للسلاح.. لقد فشل النظام العالمى القائم الآن فى أن يقدم للفلسطينيين سلاما عادلا.. ولا يبدو أنه سيستطيع.. بعد عقود طويلة من المحادثات العقيمة.. حان الوقت لأن يعترف الجميع أولا وقبل كل شيء بأن هذه المحادثات أجريت على أرضية غير عادلة ومليئة بسوء النية. وحين كان يجلس الدبلوماسيون حول الطاولات يتصافحون، كانت المستوطنات الإسرائيلية تتمدد وتتسع كل يوم.. وكانت مخالب الفصل العنصرى تمتد وتطول لتحكم قبضتها على الضفة والقدس... وكان (حصار غزة).. وجعل القطاع كله (رهينة) دائمة للهجوم والاعتداء ونصب المذابح والمجازر كلما بدا أن ذلك مفيدا لدولة إسرائيل.. لا تريد إسرائيل ولا الغرب.. لأى طرف فلسطينى أن يجلس على مائدة تفاهم ومحادثات ومرفوع الرأس.. إذا جلس لابد أن يجلس منكسرا منحنيا.. يقبل ما يملى عليه.. ولعل هذا يفسر الشراسة والقسوة المتناهية التى يتم بها التعامل مع حماس كحركة (مقاومة وطنية) تمتلك (ثقافة روحية عالية ومتميزة) سواء فيما يتعلق بالدم والشهداء أو فيما يتعلق باليقين والأمل الممتد بتحقيق النصر والتحرير.. لقد وجدت إسرائيل فى بعض الأطراف قابلية كبيرة (للسحب والطرق والإخضاع).. فحاولت مرارا وتكرارا أن تجعل من هذه الأطراف (الآخر) الذى تتفاهم معه... قابلا ما يلقى إليه من (عطايا) و(منح).. حيث لا يوجد مكان لمفردات مثل (الحق والأرض والتحرير والعودة والوطن والدولة) .. هناك طرف يملك كل أسباب القوة ويفعل ما يحلو له.. وطرف لا يملك أى شيء من القوة ويجب أن يقبل ما يعطى له.. مثل هذه المعادلة يصعب على أى إنسان حر.. كريم.. عزيز.. أن يقبلها ويرضى بها.. فضلا عن أن يكون إنسانا (عربيا) و (فلسطينيا).. والملفت للنظر أن هناك أطرافا عديدة ترى مثل ذلك (محليا وإقليميا ودوليا) والحاصل أن الواقع سيستمر كما هو. غير أن التاريخ علمنا أن كل حركات التحرر الوطنى هى التى كتب لها الاستمرار والانتصار فى النهاية.. والفلسطينيون فى توصيفهم (الوطني) والعرب فى توصيفهم (القومي) لن يكونوا أقل من غيرهم من الشعوب والأمم.. وستظل فلسطين قضية شعب ووطن وأيضا قضية أمة وعقيدة. الأمين العام للجامعة العربية أدان (التصعيد الإسرائيلى الخطير) وكذلك مجلس الأمن دعا إلى (اتخاذ التدابير اللازمة لوقف العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة) وحذر من عواقب إنسانية مثل تلك الاستنكارات اللفظية المتناثرة من هنا وهناك والصادرة أصلا من منطقة منشغلة ومضطربة لا تكفى أبدا ولا تكافئ المعاناة الرهيبة التى يعيشها الفلسطينيون فى غزة.. ينبغى الضغط على إسرائيل بكل أشكال الضغط لحماية الشعب الفلسطينى الذى تحتله (بالقوة الغاشمة) من المزيد من التردى والمزيد من المآسي. لابد من فتح المعابر فورا وتنظيمها تنظيما إداريا ينفى أى تشكك واتهام.. ووفق المعايير الصحيحة للحقيقة وهذا ليس صعبا ولا مستحيلا.. فقط توافر الإرادة الإنسانية لمساعدة شعب فى محنة يصبح على (مجزرة) ويمسى على (جنازة).. ومما يؤسف له سماع أصوات تحريضية مشئومة.. تخلط الأمور ببعضها خلطا لئيما فى دفع تبريرى بائس ومشوه لتتخلى مصر عن دورها العروبى والقومى والتاريخى فى مساندة الشعب الفلسطيني.. ليس فقط لأن فلسطين عربية.. ولكن صونا للأمن القومى العربى والمصري. لمزيد من مقالات