ذهبت قبل أسبوعين فى مهمة لتصوير الفنان عادل نصيف أثناء عمله فى هيكل دير الأنبا توماس بالخطاطبة بمحافظة البحيرة، (وكنت لا أعرف مكانه بالمرة) فقرر أصدقائى من سفارة بولندا أن يصحبونى لإنقاذى من التوهان باستعمال جوجل ماب (والذى ضل الطريق هو الآخر), وبعد أن انتهينا من المهمة قررنا أن نتناول الفطير المشلتت فى طريق الإسكندرية الصحراوى على أن نتجه بعد ذلك لمشاهدة أديرة وادى النطرون. كنت قد ذهبت قبلها بأسبوعين لعمل موضوع آخر عن رحلة العائلة المقدسة وزرت دير السوريان، ووجدت بعثة هولندية من جامعة ليدن تعمل فى الدير لتحريك رسوم حائطية من الخورس الأول فى كنيسة السيدة العذراء وإظهار الرسوم الموجودة تحتها. طبعا يحتاج ذلك السطر لمذكرة تفسيرية، فالكنائس القديمة تنقسم إلى أجزاء بالترتيب تعرف بأسم الخوارس، والخورس الأول هو الجزء الأمامى من الكنيسة والذى يلى الهيكل مباشرة، والجزء الأول هنا له جانبان شمالى وجنوبى، ولكل جانب سقف على شكل نصف قبة، و زينت هذه القباب برسوم جدارية بديعة. ولما كانت هذه الرسومات لها طابع دينى (طبعا) وتمثل شخصيات مقدسة كالعذراء مريم على سبيل المثال، فإن العادة جرت على عدم إزالتها فى حال أن تقرر عمل رسومات جديدة، ويرسم المنظر الجديد فوقها. ونظرا لأن التكنولوجيا قد تطورت للغاية فى مجالات المعمار والفن والجمال وصيانة الفنون وترميمها، فقد تمكنت البعثة الهولندية من جامعة ليدن تحت إدارة وإشراف البروفيسور كارل إينيمه، بالتعاون مع المعهد الفلمنكى الهولندى للآثار بالقاهرة من معرفة عدد الطبقات المكونه للجدار، وفصل الطبقة السطحية (بالرغم من أنها عبارة عن نصف كرة رقيقة وهشة وهائلة يبلغ عرضها فى تقديرى حوالى أربعة أمتار) ونقلها سليمة إلى معرض تمت إقامته خصيصا بالدير. وبالرغم من ازدحام الخورس الأول بالجداريات النادرة والزاهية الألوان، فأننى عادة أفضل الجدارية الوحيدة تقريبا الموجودة على الجدار القبلى فى صحن الكنيسة والتى تمثل الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب ومعهم أرواح المؤمنين فى الفردوس، وهى أكثر القطع الفنية قربا إلى قلبى، خاصة الجزء الخاص بالأشكال الكاريكاتورية لأرواح المؤمنين والتى لسبب لا أعلمه تذكرنى برسوم الفنان هيرجيه فى مجلة تان تان. المهم، غادرت الدير منذ شهر وعدت إليه ثانية بعد أسبوعين ووقفت مشدوها أمام جداريتى المفضلة. فالحائط الفارغ من الرسومات لم يعد فارغا، فقد انشق عن رسمين أثريين قديمين (جديدين) وبضعة كتابات بلغات لا أفهمها. أخبرنى الراهب القائم على رعاية الكنيسة بأن الكشف الأثرى لا يزال «طازة» وأننى أول من يشاهده منذ ثلاثة قرون (طبعا بعد فيون مكتشفيه ورهبان الدير) و أضاف أن البعثة الهولندية التى كشفت عن تلك الرسوم تقوم بحزم أمتعتها فى الخارج، هرعت خارجا لمقابلة أفراد البعثة، وطبعا لإحضار الكاميرا من السيارة. اكتشفت أن المدير الميدانى لفريق ترميم وصيانة الأثر كان هو الآخر بولنديا واسمه كريستوبال كالافوراالذى أعطانى معلومات عن كيفية الوصول للبروفيسور إينيمه. لم يستغرق البروفيسور سوى يوم واحد لبرد على بريدى بكامل المعلومات الفنية والتقنية وإجابه تعليمية على أسئلتى. سميت أنا هذه الرسوم «فرسكات» كما أخبرنى البعض، ولكن البروفيسور سماها لوحات، مع شرح فى بريد منفصل عن الفارق بين اللوحات الجدارية والفرسكات الجدارية، وأسئلة أخرى كثيرة. المهم شرح البروفيسور أن لوحة الآباء البطاركة (لوحتى المفضلة) كانت قد اكتشفت فى 2000، وكان واضحا أن طبقة الجص التى كانت تغطيها والتى ترجع للقرن الثامن عشر قد غطت كذلك زخارف على يسارها. وبعد إزالة جزء من هذه الطبقة رأينا أن تلك الزخارف هى عبارة عن كتابات سوريانيه ولوحة أخرى فى حالة جيدة. ولم يكن من الصعب إزالة تلك الطبقة الإضافية حيث إنها لم تكن مثبتة جيدا، لتزيح الجدار عن قديس هو مقاريوس (مقار) - وإن كانت الرسوم والنصوص على يسار ويمين اللوحة لم تحدد أى مقار بالضبط هو المرسوم هنا. فعلى يمين الرسم نرى راهبا واقفا فى كرمة عنب، وأثرا لراهب آخر بجانبه، مما يعيد للأذهان قصة مقاريوس السكندرى الذى تلقى هدية بسيطة من عناقيد العنب فى مرضه ورفضها نظرا لتواضعه الشديد.( وبالطبع، وهذا من عندى أنا فقد يكون المقصود هو الأنبا مقار الكبير مؤسس الدير القريب، أواحتمال بسيط أن يكون مقار أسقف إدقاو) وعلى يسار مقاريوس نرى رسما كبيرا لما يسمى بالشروبيم. (وببساطه وبدون الدخول فى مناقشات مطولة ونظرا لأننى لست مثقفا دينيا فأرجو عدم اقتباس كلامى - فهو ملاك) ممسكا بذراع، مقاريوس، وعنصر فى الرسم مشيرا لحياة الأنبا مقار الكبير حيث قاده الشروبيم فى صحراء المنطقة والمعروفة باسم برية شهيت. ثم نرى نصوصا أخرى على يسار اللوحة مكتوبة بالسوريانية والقبطية. ويشير النص السريانى إلى وفاة مار مكارى من تكريتن ورئيس الدير، الذى توفى فى عام 888 ميلادية، متمنيا له أن يلحق بالأنبا مقاريوس فى الفردوس مع الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب، مما يشير بوضوح إلى لوحتى المفضلة على اليمين، ومما يعطى فرصة نادرة فى تاريخ اللوحات أن نعرف تماما تاريخ رسمها فى عام 888, ويضيف النص معلومات مهمة عن تاريخ الدير. وأخيرا فى أقصى اليسار نجد رسما آخر لقديسين حالسين على ظهر جواد، ويقتلان كائنات ضئيلة. للأسف لا ثوجد أي نصوص تخبرنا عن شخصيتهما، وإن كان أحد الكائنات اسمه ألكساندروس. وهكذا فسننتظر للعام المقبل لنرى الكنوز المخبأة على باقى الجدار عند الكشف عنها.