أعظم ما في مصر هذه الأيام هو الأزهر برجاله، فمنذ أنشأ بيرم التونسي في شجاعة تليق بالشعراء قصيدته التي مطلعها .. أول ما نبدي القول نصلي ع النبي .. نبي عربي يلعن أبوك يا بخيت. ولم يكن بخيت غير الشيخ الأزهري الذي أفتى بعودة الخلافة العثمانية. عقب إعلان تركيا إلغاءها. حتى أن مؤتمرًا عقد بالقاهرة في عام 1925 وفشل في إعادتها. منذ ذلك الوقت ومواقف الأزهر تتراوح بين مداهنة الحكام، وتحاشي الصدام مع جماعات الدين السياسي على مدى قرن باستثناءات قليلة. حتى باتت كل المواجهات مؤجلة إلى أن فرضت نفسها علانية مع تمدد جماعة الإخوان المسلمين. والمناداة بعودة الخلافة والمتاجرة بالدين وإقحامه في أمور السياسة في ذروة احتياج مصر إلى أن تصبح دولة مدنية. يعرف الأزهر والوسطيون أن تلك لم تكن سوى اشتغالات وهابية. وتعميم للجهل الذي يضر بالدين والدنيا معًا. وحتى لا ننسى وكم ننسى نذكر فتاوى وهابية أضحكت علينا الدنيا على مدى السنوات الماضية، من نوع حرمانية قتل البراغيث لأن البرغوث يوقظ المسلم لصلاة الفجر. وعدم جواز جلوس المرأة على كرسي، أو بجوار حائط لأن كليهما مذكر. وفتوى إرضاع الكبير. وحرمانية مجالسة الرجل لابنته. وكذا أن يظهر جسم المرأة على زوجها. إلى آخر هذه الخزعبلات التي تلهي الناس عن مشاكل حياتهم الحقيقية. مما يفسر فتاوى لاحقة بعدم جواز الخروج على الحاكم. وتحريم التظاهر. ثم تغيير مناهج الأزهر بإعادة كتابتها. ولم يكن كل ذلك سوى حرث للتربة لمجيء الإخوان والتمهيد لعودة الخلافة. وتفاصيل نعلمها جميعًا. بل إن ما حدث في جامعة الأزهر ومدنه الجامعية لم يكن غير ثمار لما درسه هؤلاء الطلاب، الذين يعتقد الكثير منهم أن هذا هو الدين. والتي كان من المنطقي أن تجد تأييدًا مماثلًا من الإخوان، وصولًا إلى رفع أعلام القاعدة وطالبان في مظاهرات الإخوان أنفسهم. ولا يقولن أحد أن في هذا خلطًا للإخوان بالسلفيين ببتوع الدعوة والتبليغ بطالبان والقاعدة بالتكفيريين الجهاديين. الفرق بينهم هو الفرق بين درجات سلّم واحد، اسمه الإسلام السياسي. كل هذا بات من البديهيات، لكن ما هي خطورة أيديولوجية الإخوان المسلمين بالذات؟. والتي مثلت العباءة الجامعة لكل هذه الأفكار. والتي ضمت بين معتنقيها أطباء ومهندسين وأساتذة جامعيين، وليس أنصاف وأرباع المتعلمين فقط. ثم لماذا يعتنق هؤلاء الأكاديميون أصلًا فكرًا كهذا؟. هذا ما سنحاول فهمه. خطورة هذه الجماعة ليست في أنها تكرّه الناس في الحياة وتعلي من شأن الموت. ولا في كونها تحول دون نمو الأفكار المتباينة نموها الطبيعي في الواقع. ليجد الناس الفرصة للتعرف على ذواتهم وميولهم. فيكون هناك الليبرالي والماركسي والقومي والوجودي بل وحتى الديني. هي فعلًا «فكرة جامعة» مثلما سماها حسن البنا. فهي تقدم قائمة مثل قائمة المطاعم بها كل مايريد الزبون. خلطة من المساواة والتمايز والرأسمالية والاشتراكية والسيادة والعبودية. وكراهية الحياة ومعايشتها.. إلخ كما لو أن هذه القائمة تقول.. زورونا تجدوا ما يسركم.. وهي خلطة الدين السياسي دائمًا. وقد خلفت هذه الخلطة تشوهاتها على المشتغلين بالعمل العام والسياسي منه بالذات. كأن تجد شخصًا وقد تحول من فكر إلى فكر بسهولة، بحيث لا تصدق أنه انتمى إلى هذا الفكر أو ذاك عن يقين.. أيضًا فكرة «الحشد»، أي حشد أكبر عدد من الأنصار بما يقتضيه هذا من الطبطبة والثناء والعوم على العوم وإلقاء قداس «جماهير الشعب العظيم»، حتى صارت كل العبارات والأقوال متشابهة. وجعل تباين الأفكار كما نرى هذه الأيام لا تصنع تعددًا حقيقيًا. وبدرجة شككت الناس فيما يقال. طبيعي أيضًا أن يجيد أصحاب الاتجاهات المختلفة فعل التحريض.. وهو ابن الانفعال وليس الأفكار. علاوة على المزايدة من الجميع على الجميع بإظهار مدى الالتزام بالأخلاق السائدة. بالذات فيما يخص العاطفة والجسد. أو نظرة المجتمع كله.. كله إلى المرأة في الحياة العامة. فحتى إذا أظهر الجميع خلافًا بينهم في تفاصيل الأمور الاقتصادية والسياسية.. إلخ. لا تكاد تجد فرقًا واضحًا يخص أمر الأخلاق. وكأنما يدفع الجميع عن أنفسهم شبهة أخلاق مغايرة. ذلك أن جذرها جميعًا يكمن هناك في قائمة «الدين السياسي».. وهي أخلاق يخونها الجميع في كل لحظة وبكل الصور. وليس صدفة أن أشهر جملة على ألسنتنا هي «الناس هتقول علينا إيه» وكلمة «المفروض». بما يجعلنا جميعًا حراسًا لمنظومة من النفاق. ورعاة للتشوه والسرية. وقد يبدو هذا واضحًا في المدن الصغيرة والأقاليم. حيث لا يتيسر لأحد المجازفة بممارسة أخلاق علنية غير السائدة. حتى لو كانت أمرًا بسيطًا كالتخلي عن الحجاب. صحيح أن الأخلاق آخر ما يلحق به التغيير في أي مجتمع، غير أن هناك من يقول أننا لم نطوّر نموذجًا أخلاقيًّا ليبراليًّا ليحل محل القديم. أقول أن خطورة فكر الإخوان ليست في الانتهازية أو النفاق اللتين تبرران لأحدهم الاعتقاد بأن إيمانه أفضل من الآخرين وأن من حقه الوصاية عليهم واستباحتهم وانتهاكهم. أي أن هذا الفكر ليس مجرد صلاة وصوم وتكفير للآخرين وفلوس. إنما يتمثل الخطر الأعظم في تبطيط العقل وشلّه عن العمل.. فليست هناك أسئلة.. هناك إجابات حاضرة لكل سؤال.. واجتماعيًّا يحتضن هذا الفكر الموروث الثقافي ويضفي الشرعية الدينية على العيوب والتشوهات الثقافية ويؤطرها.. كل ما على الشخص فقط أن يفتح الكاتالوج.. أو بالأدق.. أصحابه. أقول أن خطورة فكر الإخوان المسلمين مؤسسة على تأبيد وصيانة هذه الأمراض عبر حيل كثيرة.. كالتبرير والإنكار والكذب.. الكذب الذي يصدق فيه الإنسان أكاذيبه. وحل كافة المشاكل من خلال الكلام.. لا واقع هناك، إنما كلام في كلام. وشرح لهذا الكلام بكلام آخر. بما أصاب الإنسان بتحوصل حول الذات وعدم قدرة على التواصل مع الآخرين.. فقد تجد عشرة أشخاص. كل منهم بارع فيما يؤديه وحده. لكن دعهم يعملون معًا. تجد ما لا نهاية له من مشاكل واستمع إلى خبرة مصري يعمل في الخليج ومعاناته من بني بلده بخلاف الجنسيات الأخرى. ليس هناك ما أسميه «العقل الاجتماعي» بل العقل الفردي.. أو الغيبوبة الاجتماعية. والأكيد أن لا شأن للاقتصاد بهذا الاغتراب الشديد . تلك خطورة فكر الإخوان المسلمين، الذي يمنح هذه الأمراض والتشوهات الثقافية إطارًا من القدسية كأنها قدر. تشوهات تبطل عمل العقل. بما يقدمه هذا الفكر من إجابات محددة داخل الكاتالوج.. مثال واضح جدًا.. اسأل أحد مليونيرات هذا الفكر.. أليس الرسول (ص) قدوتك؟ فلماذا تراكم مئات الملايين ما دمت تتبع نبيًّا دعاؤه «اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا واحشرني في زمرة المساكين بمعنى الفقراء»؟.. واسمع ما سيقوله هذا المليونير أو الملياردير الإخواني. فإذا سألته لماذا تتزوج بنتًا تقل عنك بخمسين عامًا؟ أجابك أنه يقتدي بالرسول (ص). سيكون سؤالك التالي فورًا.. في هذه فقط! وهل أنت الرسول!. حينئذٍ، سيقوم بتكفيرك وإدخالك النار حاشا لله وهو قاعد باشا. قد يبدو هذا الكلام نظريًّا، في وقتٍ ينتظر فيه الجميع إجابات فورية على أسئلة حياتية ملحة. لكننا نصف ثقافة ممتدة تؤثر في عقل الشخص البسيط والمتعلم. ثقافة بلغت اكتمالها العبودي مع ظاهرة الإخوان. صحيح أن العقل (الشغال) أي العقل النقدي ينمو في مناخ من التعليم والإشباع الاقتصادي، وصحيح أيضًا أنه ليست هناك ظاهرة من صنع عامل واحد. لكن هناك مرحلة من تاريخنا الحديث كانت الأمية فيها أضعاف ماهي عليه الآن. والفقر أكثر انتشارًا وقسوة. لكن العقل العام كان يعمل، ويندهش، ويتساءل.. وهي الفترة التي أنتجت قامات في كل مجال نعيش على آثارها إلى اليوم. ويوصف المجتمع فيها بأنه مجتمع (طالع). قد يفسر هذا، لماذا ينتمي أكاديميون وذوو تعليم عال إلى فكر الإخوان ودعك من مسألة أنهم نتاج طبيعي لنظام تعليمي فاسد لا يعلم التفكير المستقل بل الاتباع والمحاكاة فالأمر أبعد من هذا.. هو هيمنة ثقافة اجتماعية ثقيلة الوطأة.. ثقافة كاتالوج قيمي مليء بالإجابات المتوارثة بما يجعلهم يكفون عن التفكير ويستنيمون إلى الإجابات السهلة الجاهزة الواردة في الكاتالوج.. مهما كان السؤال. لذا تجد من هو أقل حظًا من التعليم والمعرفة يقود ويوجه أساتذة جامعيين. فهو قد حفظ الكاتالوج بينما انشغلوا هم بحفظ أشياء أخرى. أقصد أن المنافع والإغراءات والمكاسب لا تكفي لتفسير هذا الانقياد، فقط تفسر جانبًا واحدًا من ظاهرة القطيع.. فكلاهما التابعين والمتبوع (حافظ مش فاهم). أذكر وأنا في الثانوي أنني سألت مدرس الفيزياء.. هل النظائر المشعة لها نفس الكثافة النوعية؟.. فأجابني بشلوت ألقى بي بعيدًا. ولم أفهم سببًا لذلك.. ولم يكن المدرس متدينًا. اليوم أقول أن هذا الشلوت مهما كانت الحذلقة في سؤالي كان يلقنني درسًا حول الثقافة السائدة والتي ينبغي عليّ اتباعها وهي.. لا تسأل. هل المشكلة في جوهرها ثقافية؟.. ثم ما هي الثقافة أصلًا!. من بين أكثر من مائة تعريف للثقافة نذكر ما اعتمدته منظمة اليونسكو قبل سنوات وهو «الثقافة هي ما يتبقى في سلوكنا التلقائي، بعد أن ننسى كل ما تعلمناه». كما ترى هذا التعريف الذكي، لا يتضمن قدر المعلومات ولا الدرجات العلمية. إنما طريقة الملبس ونوع الأكل وكيف نعبر عن عواطفنا في انفعالاتنا المختلفة.. إلخ. هو أيضًا لا يمس من بعيد أو قريب التأخر الاقتصادي والتكنولوجي ولا الفقر أو الغنى. فقد تتقدم هذه العناصر ويظل المجتمع ذا ثقافة بدائية همجية. تباعد بين أفراد المجتمع، بحيث لا يشعر كل منهم بالآخر ولا أنه فرد في مجتمع بل كائن متحوصل حول ذاته. يفكر فقط في حماية نفسه. ويفسر أيضًا لماذا لا تبعد النخبة كثيرًا في ممارستها عمّا هو سائد.. إنها ثقافة الكاتالوج المليء بإجابات لكل الأسئلة. والإخوان المسلمون هم حملة الكاتالوج وحماته طبعًا. وما تعاقب الأنظمة القمعية، ولا الانحطاط الاجتماعي ولا حتى الاقتصاد الريعي سوى نتائج.. والمعنى أن المنظومة الثقافية للمجتمع وفق ما ذكرنا، تظل ذات أهمية استثنائية في توجيه العقل العام. فالدولة المصرية الحديثة تتقدم وتنتكس داخل ذات المنظومة.. داخل بناء ثقافي يتربص بأي تقدم. بعد مائتي عام قطعناها باتجاه الدولة الحديثة، راقب نظرة المجتمع إلى المرأة والطفل مثلًا، وقدر استقلال الشخصية فيه وقدر التبعية. بل نظرته إلى مفهوم العمل. وللأمانة، فإن الإخوان المسلمين، لم يفعلوا سوى أنهم اهتدوا إلى استثمار التخلف الثقافي ببراعة. بل إن ظاهرة الإخوان نفسها يمكن النظر إليها كظاهرة نفسية اجتماعية بأكثر مما هي ظاهرة سياسية.. فهي تشبه «الانتحار الجماعي». والتعامل معها كاتجاه سياسي ينزع عنها الكثير من خطورتها. انظر إلى العبارات الواحدة التي يكررونها. وإلى ردود أفعالهم على إزاحتهم عن الحكم.. والتي يوجهها الغل والانتقام. وليس مثلًا تفهم العوامل السياسية من حولهم ومحاولة استعادة حضورهم ونفوذهم من جديد.. بالمناسبة فإن الثأر والانتقام عواطف إيجابية إذا تعلقت بشعب واجه هزيمة مثلًا، وتصبح كارثة إذا تعلقت بفرد أو جماعة.. فهي تأكل أول ما تأكل الشخص نفسه أو الجماعة.. فالتسامح قيمة حضارية كبيرة. لكن هذا موضوع آخر. إذا استمر بقاء البناء الثقافي الذي نحيا به، فقد تتكرر ظاهرة الإخوان المسلمين تحت أي مسمى آخر قد لا يكون بالضرورة دينيًّا. مع الأخذ بالاعتبار أن كثيرًا من النخب السياسية التي تريد حصد التأييد تعوم على العوم وتمعن في شراء ود الجماهير بترديد العبارات السائدة. وليس بإشاعة العقل النقدي. حتى ولو كان في هذا اصطدام مؤقت بثقافة عتيقة تعيق الجميع. فنحن اليوم في مفترق تاريخي بمعنى الكلمة. وفي أمسّ الحاجة لأن نعرف بجد أن الإجابات دائمًا عمياء.. والأسئلة دائمًا مبصرة. بمعنى أن نغير الكاتالوج من دون خوف. .................... كانت آخر ورقة بحثية لأحد تلامذة الراحل د.سيد عويس، وهو د.عبد الباسط عبد المعطي مقدمة إلى مؤتمر ما قبل يناير 2011 بأسابيع، ورقة لم يهتم بها أحد عنوانها بالغ الدلالة «تحييد الفكر الديني، لا تجديد الفكر الديني». فهل كان يتنبأ بما سنعيشه اليوم؟ ليرحمه الله هو أيضًا فقد مات قبل ثورة يناير بأسابيع.