نحن على أبواب مرحلة فريدة فى تاريخنا نستطيع إذا تسلحنا فيها بالوعى والشجاعة والمثابرة أن نحقق المعجزات. كل شىء فى هذه المرحلة جديد. مستقبل مفتوح، ورئيس جديد، وقبل كل شىء أمة جديدة، وهى أعرق أمة فى التاريخ. لقد ثرنا ثورة مزدوجة أو ثورة شاملة، جددنا فيها أنفسنا، أو قل اننا ولدنا فيها من جديد. وأنا لا أحلم، ولا أتخيل، ولا أبالغ، وإنما أنظر لما حدث وأقارن بينه وبين ما كان يحدث، أقرأ التاريخ وأربط بين حوادثه وأصل مفرداته بعضها ببعض، فأرى أن ما حدث كان بالفعل ميلادا جديدا خرجنا فيه من الموت أو مما يشبهه وعدنا من جديد للحياة، أو بعبارة أصح ولدنا من جديد، لأننا لا نستأنف ما كنا فيه، ولا نعود إليه، بل نقطع ما بيننا وبينه ونبدأ حياة جديدة لم نعرفها من قبل، وسوف أعود من جديد لأذكركم فى عبارات سريعة بالتاريخ الذى نسيناه، نحن فقدنا دولتنا المصرية المستقلة قبل أن يولد المسيح بخمسة قرون، ولم نستعدها إلا فى القرن الماضى الذى ظللنا خلاله نعانى من ميراث العصور المظلمة، حكمتنا أسرة أجنبية صنعت لنا الكثير لكنها ظلت متشبثة بتراثها العثمانى فلم تخلص للديمقراطية، ولقد بقى المحتلون الانجليز أكثر من سبعين سنة يعبثون بمقدراتنا وينالون من كرامتنا، وعندما تحررنا على يد العسكريين من احتلال الانجليز وطغيان الملك وقعنا فى قبضة الذين حررونا، وظللنا نتعثر فى طيغانهم ستين عاما متواصلة أساءوا خلالها أكثر مما أحسنوا، وضيعوا علينا الكثير مما حققناه فى نهضتنا المتعثرة، لكننا فى اللحظة التى بدا فيها أننا فقدنا كل شىء ولدنا من جديد، وهى معجزة نستطيع تفسيرها. لقد سبقنا غيرنا إلى التجمع والتحضر، وعشنا فى ظل دولة مركزية مستقلة ثلاثة آلاف عام، فقدنا بعدها استقلالنا وغيرنا عقيدتنا الدينية ولغتنا، ولكننا ظللنا متشبثين بتراثنا الذى بقى سرا من اسرارنا القومية أو روحا حيا كما سماه توفيق الحكيم يرحل فى العقائد واللغات والعصور، يحمى وحدتنا، ويحفزنا للمقاومة، ويحول الآلام والنكبات إلى خبرات نكتسب بها المناعة، ونقاوم الألم وننتصر على الموت، كما فعلنا فى ثورتنا التى استعدنا فيها ما كنا نظن أننا فقدناه. كنا نظن أن الخوف أصبح فينا مرضا متوطنا، وأننا لم نعد نعرف الشجاعة، ولا نملك القدرة على المواجهة، وقد فوجئنا بما استطعنا أن نصنعه فى مواجهة سلطة تملك كل أدوات القمع ولا تتورع عن ارتكاب أى جريمة، فوجئنا بقدرتنا على مواجهة هذه السلطة التى عجزت هى عن مواجهتنا واستسلمت لنا. ولقد كنا فى الماضى نتشجع فى مواجهة الغزاة الأجانب، لأن حقنا فى مواجهتهم صريح واضح يشد من أزرنا ويفت فى عضدهم. فإذا ابتلينا بالطغاة المحليين تخاذلنا ووقفنا أمامهم خائفين، وهذا ما لم يحدث لنا فى الخامس والعشرين من يناير التى لم يغفر فيها للطاغية أنه مصرى، وأنه حمل السلاح ودافع عن وطنه ضد الأعداء. وكما عرفنا للحرية حقها فى مواجهة الطغاة العسكريين عرفنا لها حقها فى مواجهة الطغاة المتاجرين بالدين، وهى نقلة فى تاريخنا لم تسبقها سابقة، إذ كان الخلط بين الدين والسياسة من ناحية الحكام يمنعنا من مواجهتهم، ويجعلنا نخلط نحن من ناحيتنا بين العبادة والعبودية، هكذا كنا نفعل مع ملوكنا الفراعنة، وهكذا فعلنا بعد المسيحية مع قياصرة بيزنطة، وهكذا فعلنا مع الخلفاء والولاة والسلاطين المسلمين، وفى الوقت الذى وقفنا فيه بقوة ضد الفرنسيين حين دخلوا مصر مع بونابرت، وضد الانجليز حين احتلوا بلادنا عقب الثورة العرابية ظللنا إلى نهاية الحرب العالمية الأولى نعترف بتبعيتنا للاتراك العثمانيين، وظلت عودة الخلافة حلما يراود البعض، ومنهم هذه الجماعة الإرهابية التى استطاعت فى النهاية مع غيرها من جماعات الاسلام السياسى أن تسرق الثورة وتستولى على السلطة، فلم تكد تمضى سنة حتى هب المصريون عن بكرة أبيهم يطلبون الحرية ويسقطون دولة المرشد التى خلطت بين السياسة والدين. هكذا كانت الثورة ميلادا جديدا للمصريين استعادوا فيه فطرتهم الأولى، أى حريتهم، وفصلوا بين الدين والسياسة، وتهيأوا بهذا لدخول المستقبل الذى أدارت له جماعات الإسلام السياسى ظهرها. إنهم ينتمون صراحة للماضى، ويسمون أنفسهم سلفيين، ويسعون لإعادتنا إلى تلك العصور التى كنا فيها اقنانا، أو أشباه أقنان، يرفعون شعارات الثورة المضادة، ويحلمون بموت جديد أو بموت دائم مستمر، وقد فاجأناهم وفاجأنا العالم، وفاجأنا أنفسنا حين ولدنا من جديد، فلم نصدق أنفسنا، ولانزال على ما يبدو مترددين لا ندرى أهو حلم أم حقيقة؟ لأن قوى الثورة المضادة على اختلافها لاتزال تحاول أن تعود بنا إلى ما كنا فيه. الإخوان يحملون السلاح ضد الدولة ومؤسساتها، والسلفيون وزعوا أنفسهم على المعسكرات المختلفة، قادتهم يهتفون للسلطة الجديدة، والأتباع بعضهم يرفع شعار رابعة، وبعضهم واقف على الحياد، كما يقال، وهناك قوى أخرى ومؤسسات ومصالح تجد فى الأوضاع الراهنة المرتبكة، فرصة للخلط بين عودة الدولة والعودة إلى ما سبق يونيو، وما سبق يناير، أى إلى ما قبل الميلاد، ميلاد الأمة بالطبع لا ميلاد المسيح!. لكن هؤلاء جميعا فلول، والفلول هى الكسور، وهى الشراذم والبقايا المتناثرة المضروبة من جيش منهزم، هذا الجيش لم يصبر على المقاومة ساعة، ولم يكن فراره أمام جيش آخر، وإنما كان أمام أمة خرجت بملايينها لتسقط الطغيان بكل صوره، الطغيان العسكرى، والطغيان الدينى، وقد سقطا واحدا بعد الآخر فى ثورة عبقرية ليس لها مثيل فى التاريخ، خرجنا فيها من الماضى، وتطهرنا من أمراضه وادرانه، وجددنا فيها أنفسنا، أو قل إننا ولدنا فيها من جديد، لا ينبغى إذن لأحد أن يراهن على عودة الماضى استغلالا لأى ظرف أو تحت أى شعار. طبعا نحن فى أشد الحاجة إلى الأمن، لكننا فى أشد الحاجة إلى الحرية، والثورة التى اشتعلت فى يناير لم تشتعل طلبا للأمن، بل اشتعلت ضد تحول الأمن إلى قمع وتعذيب وتنكيل. ونحن فى امس الحاجة إلى الخبز، لكن الملايين التى ثارت فى يونيو ثارت على جماعة المرشد التى تاجرت بجوع الجوعى واشترت أصوات بعضهم بالجنة والنار والزيت والسكر. الأمن لا يعوضنا عن الحرية. والدولة المدنية هى الجنة التى نريد أن ندخلها فى هذه الحياة الدنيا، والدولة العسكرية أو الدينية هى الجحيم!. هل معنى هذا أن الثورة انتصرت، ولم يبق هناك ما نخشاه؟ نعم، على المدى البعيد، ونعم أيضا على المدى القريب، لكن بشروط نطرحها يوم الأربعاء المقبل. لمزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي