من المثير للتعجب فى هذه الانتخابات الرئاسية ليس اتفاق المرشحين الاثنين فى الخطاب الدعائى وفى بنود البرنامج، وإنما فى تجنبهما، هما الاثنان معاً، بعض القضايا شديدة الأهمية بما يعطى انطباعين متناقضين: إما أن هذه القضايا من المُسَلَّم بأهميتها وبمكانتها المتقدمة فى قائمة الأولويات وأنه ليس هنالك ما يدعو إلى ذكرها، وإما أنها أبعد ما تكون عن الاهتمام بما يجعلها لا تستحق الكلام! الضوضاء واحدة من أهم هذه المسائل، خاصة بعد أن استفحلت فى طول البلاد وعرضها على مدى ال24 ساعة، وفى حين يكتفى البعض من آن لآخر بالتركيز على ميكروفونات المساجد الصاخبة المتعددة المتنافرة، فى رفع الأذان وفى إقامة الصلاة وفى الدروس الدينية، إلا أن الحقيقة المؤلمة هى أن اتساع دوائر الضوضاء قد تجاوز هذا التحديد بكثير، كما تعددت مصادرُها وأسبابُها إلى ما صار يَصعُب حصرُه فى مقال، كما أن مخاطرها تجلت فى مجالات كثيرة، اجتماعية وصحية ونفسية وفى غير ذلك، ومن المعلوم أن آلاف الدراسات من مدارس شتى عبر العالم تُجمع على هذه المخاطر، وأنها حددت نتائج تحظى باتفاق العلماء تؤكد الفتور والتشتت وضعف العزيمة وفقدان الهمة والضعف من أقل مجهود وسرعة التوتر، إضافة إلى الانصياع للهواجس..إلخ ولكن، فات كل من مرشحينا الاثنين، أن يؤكدا إدراكهما لآثار الضوضاء الهائلة على الإنتاج، وهما يعلنان كل يوم عن أهمية رفع الإنتاجية وإعلاء قيمة العمل، وأن كلاُ منهما يسعى قدر طاقته لتوفير الاستثمار وأنه سوف يعمل على تعديل القوانين لتحفيز المستثمرين..إلخ، ولكنهما حتى الآن لم يعلنا كيف سيكون موقف كل منهما إزاء الظاهرة وماذا سيفعل لحلها! مع الوضع فى الاعتبار أن الإنسان له آفاق أخرى لا تتوقف عند الانتاج المطلوب منه والذى يلبى بعض احتياجاته المادية والذى يترتب عليه أيضاً توازن نفسى بفضل الإحساس بالإنجاز وبالنفع لنفسه ولمجتمعه! وإنما، وإضافة لكل هذا، يلزم للإنسان لكى يعيش حياة إنسانية أن يتوفر له الهدوء والسكينة والاطمئنان! لقد تعاقبت عقود شابها الاستهتار فى التعامل مع هذه الظاهرة، برغم أن التنبيه لها لم يتوقف فى أى عهد، بل لقد تدهورت الأوضاع بشدة مع توافر لعب الحضارة المنتجة للصخب والتى تُستَخدَم أسوأ استخدام فى ظل غياب القانون ومنفذيه! صار فى مقدور الباعة الذين لا يزالون جائلين، ومعهم زملاؤهم الذين تمكنوا من احتلال جزء من الرصيف أو من الشارع، أن يريحوا أصواتهم من النداء على ما يبيعون، وراحوا يسجلون نداءهم عن السلعة وسعرها ومزاياها على شريط أو قرص، وأن يديروها دون توقف على جهاز يعمل ببطارية رخيصة، ويختلط هذا بالأصوات الهائلة الصادرة من مقاه صار بعضها يعمل على مدى اليوم، بما يعنى استمرار عمل السماعات الضخمة التى تزعق بالغناء أو بمباراة كرة القدم أو بالمسلسلات، وهناك الطريقة المبتكرة للإعلان عن اسطوانة البوتاجاز، وهناك ورش النجارة والحدادة والسباكة والسمكرة وتصليح أبواب السيارات، وأغلبها حاصلة على ترخيص مزاولة العمل فى قلب الأماكن السكنية! وهناك أيضاً الشقق المؤجرة مخازن لمحلات تجارية بما يعنى أن تُنقل البضاعة إلى المخزن كل يوم بسيارات نقل، ثم تأتى سيارات أخرى لتسحب من المخزون، بما يعطل المرور فتنطلق سارينات الاحتجاج لتُضاف إلى ضوضاء كل هذا الشيل والحطّ! ولا مفر لك من الضوضاء، حتى إذا هربت إلى بيتك وأحكمت الإغلاق اخترقت الضوضاء المتاريس وهاجمتك فى عقر دارك، واخترقت دماغك وأحشاءك، وفرضت عليك ما قد تكره أن تسمعه، أو ما لست مهيأ لسماعه فى تلك اللحظة، ومنعتك من الإنصات إلى موسيقاك وأغانيك وقارئ القرآن الذى تفضله، ومنعت عنك السكينة وإمكانية النوم، وحرمتك أول ما ميز الإنسان عن الكائنات الأخرى بان تسرح بخيالك أو أن تفكر فى أى شىء! هناك مرضى فى أمس الحاجة إلى الهدوء كجزء من العلاج، وهناك أطفال صغار لا يستقبلون من الضوضاء إلا الخوف الذى يتلبسهم! وحدث أن طفلاً صغيراً كان يفزع من نومه باكياً فى الفجر على واحد من أسوأ الأصوات يصرخ بالأذان بأعلى صوت فى الميكروفون، ولما ذهب الأب إلى إمام المسجد يرجوه أن يُخفِّض الصوت، أعرب الإمام عن دهشته وقال إن الطفل الذى يبكى من الأذان ممسوس بالشيطان! وطلب من الأب أن يُحضِر له الطفل ليعالجه بالقرآن! وانتشرت هذه الشعوذة حتى أن بعض المحلات أصبحت تذيع القرآن على الجهاز الآلى الذى يعيد التسجيل تلقائياً بأعلى صوت طوال الليل بعد أن يُغلِق المحل أبوابه، بيقين أن هذا سوف يردع اللصوص عن السرقة! وهناك استنكار إذا اشتكى بعض السكان من الأرق وعدم النوم! ومع تدهور الأوضاع فى السنوات الأخيرة وتعاظم الأعباء على كاهل أجهزة الأمن، صارت الدهشة تعلو وجه كل من يقابلك فى قسم الشرطة إذا كانت شكواك عن الضوضاء، وكأنهم يسخرون من معاناتك مقارنة بالقتل الحادث والقنابل الموقوتة وضحاياها! الحالات لا حصر لها، والمخاطر لا حد لها، وإهمال الموضوع لا مبرر له، وأما أن يغفل عنه المرشحان الرئاسيان معاً، فهذا مما يثير العجب، فكيف يطلبان من المواطنين المزيد من الإنتاج فى وقت يعانى فيه الجميع من الأرق والإرهاق من قلة الراحة ومن العذاب من أجل ساعة نوم؟ لمزيد من مقالات أحمد عبد التواب