فى السابعة صباح كل يوم تدخل البيت الأبيض سيارة سوداء معتمة الزجاج وفيها رئيس الاستخبارات الأمريكية (سى آى إيه) يحمل صفحة واحدة فيها معلومات استخباراتية مهمة عما يدور فى العالم. وأثناء قهوة الصباح يجيب رئيس الاستخبارات على استفسارات الرئيس ويقدم له مزيدا من التفاصيل عن المعلومات الموجزة، هذا الاجتماع الذى لا يتجاوز نصف الساعة هو بداية عملية صنع القرار الأمريكى فى السياسة الخارجية، ولكنه بداية عملية معقدة وطويلة تنفرد فيها الولاياتالمتحدة ليس فقط بآلية مركبة بل أيضا بتعدد أطراف العملية (ستة أطراف) ففى الأسابيع الأخيرة قررت الولاياتالمتحدة استئناف المساعدات لمصر والتى كانت مجمدة منذ الثالث من يوليو 3102 ولكن هذا القرار بإرسال عشر طائرات هليوكوبتر طراز أباتشى الهجومية، وحوالى 056 مليون دولار من أموال المساعدات المجمدة تعرض لتحديات من جانب السناتور باتريك ليهى رئيس اللجنة الفرعية بمجلس الشيوخ المختصة بالعمليات الأجنبية، ومنها برامج المساعدات الخارجية هذا السناتور لديه صلاحية تعليق المساعدات لمصر بصفته رئيسا لهذه اللجنة الفرعية، بأن يؤخر طرح التشريع الخاص بها على لجنته الفرعية، وهذا مثال واحد على الكيفية التى يتدخل بها الكونجرس طرفا فى عملية صنع القرار.والسؤال أليس من حق الرئيس الأمريكى استخدام الفيتو الرئاسى لإجهاض تشريعات الكونجرس التى لا يوافق عليها؟ نعم هذا صحيح ولكن المثال التالى يوضح كيف يتمكن المشرعون من تجاوز الفيتو الرئاسى. أثناء حملته الانتخابية الأولى تعهد الرئيس أوباما بإغلاق معتقل جوانتنامو لكنه أخفق فى تنفيذ الوعد بسبب معارضة الكونجرس الذى يهيمن على مجلس النواب فيه الجمهوريون المعارضون فكيف خسر الرئيس أوباما مقدرته على استخدام الفيتو فى هذا الصدد؟ كان أوباما قد طلب من الكونجرس اعتماد أموال إضافية لتمويل العمليات العسكرية فى أفغانستان بدون هذا التمويل الإضافى يواجه الجنود الأمريكيون تهديدا ليس أمنيا فقط بل ومعيشيا، وبذكاء سياسى مألوف اعتمد الكونجرس هذه الأموال الإضافية اللازمة للقوات ولكنه أدرج فى التشريع نفسه بندا يقضى بعدم إغلاق معتقل جوانتنامو، والرئيس يمكنه اسخدام الفيتو ضد التشريع بأسره وليس ضد بند واحد من بنوده، أى أن الفيتو كان سينقض التشريع برمته ويمنع الأموال التى احتاجها الرئيس فى أفغانستان. غير أن هناك أطرافا عديدة أخرى بالإضافة إلى الكونجرس تسهم فى عملية صنع القرار الأمريكى من هذه الأطراف مجموعة من الوزارات والوكالات الحكومية المنخرطة فى السياسة الخارجية ومنها وزارات الخارجية والدفاع والخزانة والعدل والأمن الداخلى والتجارة ثم وكالة الاستخبارات المركزية ومجلس الأمن القومى فى البيت الأبيض، مسئولو هذه الوكالات والوزراء يشكلون ما يعرف بلجنة المسئولين الرئيسيين CP وهم يجتمعون مرة أو مرتين أسبوعيا لطرح توصياتهم على الرئيس بعد أن يكونوا قد نسقوا فيما بينهم بهدف التوصل إلى أرضية مشتركة يتفقون عليها وهذا لا يعنى أن أعضاء هذه اللجنة يتفقون دائما على توصيات مشتركة وليس أدل على هذا التضارب مما حدث بعد الغزو الأمريكى للعراق، وكيف اختلف وزير الخارجية آنذاك كولن باول مع زميله وزير الدفاع دونالد رمسفيلد مما أرغم باول على الاستقالة فى نهاية الأمر غير أن رمسفيلد نفسه أرغم على الاستقالة هو الآخر نتيجة كشف فضيحة أبو غريب فى العراق.فى السابعة والنصف صباح كل يوم يدخل مستشار الأمن القومى المكتب البيضاوى بعد مغادرة رئيس الاستخبارات، ومعه صفحة واحدة هو الآخر فيها ملخص لتوصيات لجنة CP والفجوات والخلافات فى مواقفهم من القضايا المطروحة وفيها أيضا موقف الكونجرس من القضية ويضع مستشار الأمن القومى (الدكتورة سوزان رايس فى الوقت الراهن) مزايا وعواقب كل توصية من التوصيات فإذا ما اتخذ الرئيس قراره تقع مهمة متابعة التنفيذ على لجنة أخرى تتشكل من نواب الوزراء أو نواب المسئولين الرئيسيين CPD وهى لجنة تجتمع يوميا وربما أكثر من مرة واحدة فى اليوم. ثم يأتى طرف آخر وأخير من الاطراف التى تسهم فى صنع القرار الأمريكى أولا وهو جماعات الضغط أو اللوبى وهو مؤسسات مشروعة بحكم القانون وسجلة وفقا للقوانين الأمريكية وتمارس عملها عن طريق بسط نفوذ على أعضاء الكونجرس بمساعدتهم مالياودعائيا فى حملاتهم الانتخابية بما يضمن أصواتهم فى التشريعات التى تمس قضايا هذه الجماعات ثم محاولة التأثير فى الرأى العام لصالح القضايا التى تمثلها. ولعل هذه العملية المعقدة تشرح لنا الآن، ضمن ما تشرح، كيف تقرر واشنطن على سبيل المثال استئناف المساعدات لمصر وفى اليوم التالى مباشرة نسمع الكونجرس يعلن تجميد هذه المساعدات كما تشرح التردد الأمريكى أو التأخير فى الرد على الأحداث فى العالم أحيانا. عندما تبدأ فى السابعة صباحا فى واشنطن عملية صنع القرار يجب أن تبدأ فى السابعة صباحا فى القاهرة عملية فهم شامل لتعقيدات وآليات صنع القرار الأمريكى بهدف تحاشى ردود انفعالية، والسعى إلى قرار مصرى عقلانى يخدم أفضل مصالح الشعب. لمزيد من مقالات ◀ د.عاطف عبد الجواد