أنظر حولى الآن وأسترجع أحداث السنوات الثلاث التى مضت على ثورة الخامس والعشرين من يناير وأتوقف عندما صرنا إليه فى هذه الأيام، وأرسل بصرى فى الأيام المقبلة أحاول أن أتبين ما سوف نلقاه فيها فينتابنى شعور بالقلق الشديد على الثورة أحاول أن أعرف أسبابه، وأن أميز فيها بين ما نستطيع أن نشير إليه، ونتصدى له ونتقى شره، وبين ما لا حيلة لنا فى دفعه، لأنه ثقافة موروثة وعادات راسخة لا يمكن أن نتغلب عليها إلا بثقافة جديدة تتحول من أقوال وشعارات وأناشيد إلى أفعال ونظم ومؤسسات. أستطيع إذن أن أميز بين ما يهدد الثورة من خارج معسكرها وما يهددها من داخله... بين ما هو ظاهر للعيان يرفع علينا السلاح جهارا نهارا، كما يفعل الإخوان الإرهابيون وحلفاؤهم فى الداخل والخارج، وما هو مستتر متنكر يتطفل على الثورة ويركب موجتها، ويلتحق بركبها، وهو يتآمر عليها. كما يفعل أعوان مبارك وأركان نظامه والمستفيدون منه. وأنا لست القلق الوحيد على الثورة وعلى مصيرها وعلى ماطلبناه منها وضحينا فى سبيله بدمنا وأمننا ولانزال، فإذا كان الكثيرون فى هذه الأيام يشاركوننى شعورى، فالقلق الذى نشعر به واقع ملموس له أسبابه التى نستطيع أن نعرفها، وأن نواجهها ونحمى الثورة منها، مدركين أن هناك ما لا نراه، لأن الثورة ظاهرة استثنائية لا تتكرر كل يوم، ولا تفصح عن كل أسبابها، ولا عن كل نتائجها لأنها بكل بساطة ظاهرة إنسانية، إذن فهى ظاهرة معقدة تفاعلت فيها وأدت إليها أسباب شتى منها الظاهر، ومنها الباطن، فضلا عن أنها أفعال لابد أن يكون لها ردود أفعال تعارضها، وهذا هو ما يسمونه الثورة المضادة التى نشطت فى هذه الأيام. ونحن ننظر فى الثورات التى سبقت ثورتنا، فنجد سيرا مكتملة وأمثلة متحققة تؤكد ما قلت وتساعدنا على فهم مانحن فيه. الثورة الانجليزية التى كانت بالأحرى ثورات متعاقبة أو حلقات متواصلة بدأت فى القرن الثالث عشر، ولم تحقق هدفها النهائى إلا فى القرن السابع عشر، هذا الهدف هو أن تكون السلطة للشعب لا للملك الذى كان فى الماضى يملك وحده، ويحكم دون شريك لأنه كان يعتقد أنه مفوض من الله يحكم باسمه ويطبق شريعته، ولأنه كان فى زعمه هذا محتاجا لتأييد رجال الدين فقد ميزهم عن غيرهم، ولأن رجال الدين كانوا فى حاجة لهذا التمييز فقد وقفوا إلى جانب الملك ضد من يخرج عليه، كما وقف الملك إلى جانبهم ضد من يخالفهم أو يخرج عليهم، والقصص والحوادث التى تحالف فيها الحكام الطغاة مع رجال الدين ضد الشعب عامة، وضد الطليعة من المفكرين الأحرار كثيرة لا تحصى، ويكفى أن نشير منها إلى قصة ليتون المفكر الانجليزى الذى كان يرى أن البشر يستطيعون أن يتصلوا بالله دون وساطة ودون سلطة دينية، فحكم عليه الملك تشارلز بغرامة قدرها عشرة آلاف جنيه، وبأن تصلم إحدى أذنيه الصلم هو القطع من الجذور وأن يجلد ثم يترك حتى تندمل جراحه، وعندئذ تصلم أذنه الأخرى، ويجلد ثم يحبس مدى الحياة! وهكذا فعل العباسيون وفقهاؤهم بابن المقفع والحلاج، وهكذا فعلت جماعات الإسلام السياسى عندنا بفرج فودة ونجيب محفوظ!. هذا الطغيان المؤيد برجال الدين خرج عليه النبلاء الانجليز فى القرن الثالث عشر، وفرضوا على الملك جون أن يشاركوه فى السلطة ثم خرج عليه الفلاحون الانجليز فى القرن السابع عشر بقيادة كرومويل وأنزلوا الهزيمة بالملك تشارلز والنبلاء الذين التفوا حوله، وقبضوا عليه وقطعوا رأسه وفرضوا سلطتهم ودستورهم، فالشعب هو مصدر السلطات، والملك يملك ولا يحكم. وهذه هى الديمقراطية التى خرج عليها خلفاء تشارلز بعد رحيل كرومويل، لكن الشعب كان لهم بالمرصاد، فتراجعوا وانتصرت الديمقراطية. والذى حدث فى الثورة الانجليزية حدث فى الثورة الفرنسية، لكن بإيقاع أسرع، ونهاية مختلفة. فى البداية لم يكن المطلوب أكثر من إصلاحات فى النظام الملكى تمكن الفرنسيين من أن يكون لهم رأى فيما تفرضه عليهم الحكومة من ضرائب وتصدره من قوانين لكن الأزمة الاقتصادية، وحرص الملك على السلطة، واضطراره أحيانا للتراجع، وإصرار الشعب ونجاحه فى فرض إرادته، كل هذا تفاعل بسرعة لتتحول الرغبة فى إصلاح النظام إلى ثورة عاتية هدمته من اساسه، فقد اشتعلت الحرب الأهلية، وبدأ التدخل الأجنبى، وقبض على الملك لويس السادس عشر والملكة مارى أنطوانيت، وسيقا إلى المقصلة، وأعلنت الجمهورية، وتحول العنف الثورى إلى إرهاب منظم، وأصبحت فرنسا فى حاجة لإدارة حازمة توفر لها الأمن والاستقرار. وهنا ظهر نابليون بونابرت ليلعب الدور الذي لعبه فى تاريخ فرنسا والعالم. لقد حققت فرنسا على يد نابليون انتصارات مدوية ومنيت أيضا بهزائم مدوية، أما الثورة فقد تحولت على يده من جمهورية الي امبراطورية، وصارت الديمقراطية ديكتاتورية عسكرية على نحو ما حدث في انجلترا خلال ثورتها بعد إعدام الملك، فقد أعلن كرومويل الجمهورية، وحل البرلمان، وصادر الصحف، وقبض على السلطة بيد من حديد، وهذا هو المصير الذي توقعه الفرنسيون لثورتهم حين وقف نابليون فى «السينا» مجلس الشيوخ بعد عشر سنوات من قيام الثورة يطالب أعضاءه بمراجعة الدستور لينفرد بالسلطة، فصاحوا فى وجهه: كرومويل... لا! أى: لا نريد طاغية! هل نجد في تاريخ هذه الثورات شيئا يشبه ما نحن فيه؟ وهل يساعدنا هذا التاريخ علي مواجهة ما تتعرض له ثورتنا من أخطار؟ من المؤكد أن وجوه الشبه موجودة، لأن الحرية التي طلبها الانجليز والفرنسيون وغيرهم من شعوب الأرض في الماضي والحاضر هي الحرية التي نطلبها، والطغيان الذي ثاروا عليه وحاربوه هو الطغيان الذي نحاربه. لكن الاختلافات ايضا كثيرة ومؤثرة لأن ظروفنا غير ظروف الآخرين، وطاقاتنا غير طاقاتهم. الانجليز والفرنسيون عندما ثاروا فى القرنين السابع عشر والثامن عشر كان عندهم شكسبير، وملتون، وجون لوك، وهيوم، وفولتير، وموليير، وبومارشيه، ومونتسكيو، وروسو. وكانت لهم مصانعهم، ومزارعهم، وأساطيلهم، ومستعمراتهم، وتجاربهم الثورية، ووثائقهم الدستورية، وكانوا قد خرجوا من عصور الظلام وعبروا عصر النهضة الي العصور الحديثة، أما نحن فكنا يوم ثرنا لا نملك شيئا من هذا، تاريخنا القديم طغيان متواصل، ونهضتنا الحديثة بدأت متأخرة ولم تكتمل حتي الآن، ويوم تخلصنا من طغيان الملوك وقعنا فى طغيان عبد الناصر والسادات ومبارك، ويوم أسقطنا مبارك سقطنا فى حكم المجلس العسكري، وهو أداة من أدواته، ويوم قرر المجلس العسكري أن يكون ديمقراطيا باعنا لجماعة الاخوان، ويوم تخلصنا من حكم الإخوان وقعنا فيما نحن فيه الآن وأصبحنا مهددين بالعودة الي ما قبل الخامس والعشرين من يناير. هنا لا نملك إلا ان نصيح كما صاح الفرنسيون في مجلس الشيوخ: كرومويل... لا! لمزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي