لو كنت ناخبا وكان حمدى قنديل (مع حفظ الألقاب) مرشحا لقمت بانتخابه بلا تردد، ولكنى جازم ان غيرى لن يقوم بذلك، لسبب بسيط ان برنامجه الانتخابى ضخم لا يمكن إلا للصبورين أن يقرأه وأنا منهم، فقد كان مكونا من 592 صفحة، أما الآخرون فسوف يقلبون هذا السفر الضخم، ويمطون شفاههم، وينتقون منه ما يعجبهم شرا أو خيرا. حمدى قنديل قادم من الزمن الجميل، أرخ لفترة زمنية ما يمكن تسميته (تاريخ من القاع) عيبه أنه رومانسي، يريد أن يعود بالزمن الى الخلف ، والزمن لا يعود كما يعرف. الكتاب(المنفستو) هو ( عشت مرتين) ولا أعرف لماذا ليس ثلاث مرات او حتى اكثر، فقد تقلب قنديل فى شئون الحياة العامة وشجونها حتى أصبح القارئ يرى أنه قد مر على ما يسمى (ماكينة الزمن) التى تتقدم وتتأخر حسب الرواية الخرافية كما يرغب فيها الإنسان. ليس من حقي، ولا أعتقد من حق آخرين، أن يحكموا على صحة او خطأ خيارات حمدى قنديل فى الحياة العامة، فقط من حق هؤلاء الذين ذكرهم بإيجابية أو بسلبية أن يعلقوا ويفصحوا عن وجهة نظرهم فيما سرد من احداث، ربما زاوية الرؤية التى نظر منها حمدى قنديل للأحداث تختلف عن زاوية الرؤية التى نظر منها آخرون، ولكن من حقي، وقد اصبحت تجربة قنديل مشاعة، ان استخلص منها ما أراه من قراءتى الشخصية، نتيجة حتمية لكل هذا السرد. الكتاب أو السيرة طافحة بشيئين يلمسهما القارئ الفطن، الأول وهو الصدق فيما يروي، حتى تلك المثالب الصغيرة التى ارتكبها كمثل جمعه مفاتيح غرف الفنادق التى يسكنها إلى درجة احرجت من معه، و كان رئيس اليونسكو وقتها، ونحمد الله أن التقنية تقدمت فلم يعد بإمكان قنديل إلا الاحتفاظ فقط ببطاقة ممغنطة صغيرة، سرعان ما تفقد تأثيرها، والتى أصبحت الآن هى كل مفاتيح غرف الفنادق! والثانى هو الأهم علاقة الحرية بتقدم الشعوب، وهذا ما يهمني، وربما يهم المستقبل العربي، وليس المصرى فقط، والثانية سوف أتركها حتى آخر المقال. أما الأولى ( الصدق) فلا يترك الكاتب أحدا مما تعامل معهم إلا ويبدى رأيه فيه، ولكن حتى أولئك الذين أصبح بعضهم خلف القضبان، واختلف معهم وهم فى سدة السلطة، لا يتورع حمدى قنديل فى سيرته أن ينصفهم، بعضهم الآخر مازال حانقا عليهم، وهم أؤلئك الذى يختلف معهم ايديولوجيا ، ولكن هل كان قنديل رجلا أيديولوجيا أم رجلا حالما، مشكلته فى الأساس أنه لا يعرف على وجه الدقة ما الحلم الذى يرغب أن يعيشه، فهو ناصرى ولكن لا يتورع أن يكيل مثالب الناصرية مؤسسات الناصرية، وهو ساداتي، ولكن مع اعتراف بقصور كامل للساداتية، وهو مباركى مع الكثير من النقد الواضح، كما هو إخوانى مع اعترافه بارتكاب خطيئة التأييد المتسرع لهم ، لا أعتقد أن قنديل يمكن أن يرضيه نظام، كل الأنظمة قاصرة لا الثورية هى مكان ترحيب منه، ولا المحافظة أيضا، يمكن أن ينطبق عليه انه الرجل الذى يبحث عن ثلاثة (العنقاء والخل الوفي، والنظام العربى القائم على المأسسة) وكل ذلك خيال وخرافة وليس حقيقة. المؤسف أن قنديل قد امتهن عملا لا يوجد له تأصيل، أى العمل التليفزيوني، وأعنى أنه ليس كمثل طه حسين ترجع الأجيال لما كتب وليس توفيق الحكيم ولا حتى مخرج سينمائى مثل محمد كريم أو صلاح أبو سيف، يمكن أن تعود إلى أعمالهم أجيال لاحقة، تحكم لهم او عليهم. قنديل قدم برامج تليفزيونية كثيرة وغزيرة ولكنها إما ضاعت فى أرشيف لا يؤمن القائمون عليه بحفظ هذا التراث، أو أن التراث نفسه قد ضاع او سجلت على أشرطته مسرحيات أو أغانى أو حتى فوازير! كتابه بين يدينا فقط يؤرخ لنا هذا الجهد وهذه الروح التى لا تستقر، وهذه النفس التى لا ترضى بشيء، تتنقل فى العمل كما تتنقل فى الحياة الشخصية سواء بسواء! إن كان ثمة كلمات قليلة تصف كتاب حمدى قنديل فهو كتاب كاشف، كاشف عن عصر وكاشف عن جيل وكاشف عن امل وكاشف عن اخفاق ليس له حدود، يحب قنديل فيزجى التحيات، ويكره فيذرف اللعنات إلا أنه فى كل ذلك يطارد حلما لم يستطع أن يمسك به، فلا هو أصبح فى استقرار (ديفد فروست) أشهر من قدم التحليلات والمقابلات على شاشة التليفزيون الإنجليزي، ولا هو لارى كنج الذى استمر لسنوات يقوم بنقد المجتمع الذى يعيش فيه فى الولاياتالمتحدة دون سقف شخصي، أراد حمدى أن يكون ذلك فى مجتمع يعرف كيف يصنع الاله، سواء كانوا كبارا على سدة ألحكم او صغارا على كرسى الوزارة، ويكاد يعبدهم. تستوقف القارئ حكايات كثيرة فى هذا السرد الممتع، جزء منها مضحك وآخر حزين، وكلاهما ينبئ عن حراك سياسى اجتماعى فى مجتمع تنتفى فيه الى حد كبير (القواعد) الناضمة ،وهو ككل المجتمعات العربية متحيز إلى ( العشيرة) و(الشلة) و(القرابة)، ولكنه بعيد عن القدرة، قريب فى عمله العام الى العاطفة، فيه يتراجع التكفير العقلى لسبقه التزلف والمزايدة وتترنح المهنية، ليحل مكانها الارتجال، وتقدس فيه حكومات البشر، وتهمل حكومات المؤسسات والقوانين. الثانية التى وعدت أن أعود إليها، تكمن فى لقطتين عرضهما المؤلف، تلخصان الموقف ، الأولى فى الستينيات عندما أوقف برنامجه ( أقوال الصحف) وفطن بعد حين أنه قرأ خبرا عن عبد الناصر فى آخر البرنامج، لجأ الى مكتب (الرئيس) فقال له سامى شرف (الرئيس يقول لك خذ صُحفك وارجع تاني)! أما الثانية فهى (قطار شطانوف) فى الثمانينيات، الذى أراد قنديل فى برنامجه ( رئيس التحرير) أن يُسمع المسئولين شكوى الناس عن تأخره المزمن، فمنعت حلقته، لأن شطانوف من اعمال المنوفية، ويجب ألا يقال عنها ما قيل، وهى محافظة الرئيس (مبارك)! لعل فى هاتين اللقطتين اللتين اجتزأتهما بشيء من التعسف رغم اختلاف الزمن، تختصر ما أشرت إليه حول علاقة الحرية بتقدم الشعوب، ولأن بيننا من لا يزال يجيد صنع الآلهة، من الصعوبات التى وصفها قنديل تكمن فى (الثقافة) بمعناها الشامل، فإن لم تتغير، وهى لا تتغير ببطء ،فلن يتغير شيئ كثير، فقط يحتاج قنديل إلى حياة ثالثة، حتى نعرف جميعا أن كتابه ليس عن الماضي، ولكن أيضا عن المستقبل.! لمزيد من مقالات محمد الرميحي