تعتبر التعبيرية في العمارة ظاهرة ما بعد الحرب العالمية الأولي, حيث كان مصطلح' التعبيرية' حتي سنة1914 موظفا لوصف أعمال الفنانين من الشعراء والموسيقيين والتشكيليين. وقد صيغ مصطلح' التعبيرية' في الأصل في فرنسا سنة1901 لوصف أعمال دائرة الفنانين المحيطة بالمصور هنري ماتيس, الذين حوروا تصويرهم للطبيعة وفقا لرؤيتهم الذاتية. ولكن التعبيرية لم تدخل الخطاب النقدي العالمي إلا بحلول عام1911, عندما استخدمها النقاد الألمان لكي تشير إلي الفن الحديث بصفة عامة, ثم بعد ذلك لكي تشير إلي الفن الألماني بصفة خاصة. وبشكل مستقل تماما عن انشقاقها من التصوير الفرنسي, تأثرت التعبيرية بالفلسفات الجمالية الألمانية لأواخر القرن التاسع عشر, وخصوصا نظرية كونراد فيدلر عن' الرؤية الواضحة', ونظرية روبرت فيشر عن' التقمص العاطفي', واللتين تتحديان المفهوم الكلاسيكي للمحاكاة. وقد تركزت التعبيرية في مدرستين ألمانيتين منفصلتين: الأولي تعرف باسم' الجسر' وتأسست في دريسدن سنة1905, وكان من ضمن أعضائها إرنست لودفيج كيرشنر, وإميل نولده. والثانية تعرف باسم' الفارس الأزرق' وتأسست في ميونخ سنة1911, وكان من ضمن أعضائها فاسيلي كاندنسكي, وفرانز مارك. وقد بالغ مصورو كلتا المدرستين في أشكالهم ومساحاتهم, وشوهوا عن قصد خطوطهم الخارجية, واستخدموا ألوانا قوية بهدف التعبير عن حالات وأحاسيس العقل والخيال والوجدان. لقد استجابوا لصيغة العالم النمساوي سيجموند فرويد في التحليل النفسي ولكتاباته في السنوات السابقة. كان المصورون التعبيريون يهدفون إلي كشف هذا العالم من العواطف والانفعالات بما يحتويه من دوافع مكتومة وبواعث غامضة للسلوك الإنساني. وفي الواقع, لم يفكر المعماريون في ذلك الوقت في مثل تلك الأهداف, ومع ذلك فقد أصبحت التعبيرية هي المصطلح الذي عرف به المعماريون الألمان' الفرديين'. كان العديد من المعماريين الألمان مناصرين للغة التصميم الجديدة في القرن العشرين, والتي تعتمد علي المباديء العقلية المستمدة من تقنيات البناء الحديثة. وظهرت من بينهم مجموعة أكثر فردية, تميل كثيرا إلي استخدام الأشكال العضوية المائعة والتكوينات البلورية غير المنتظمة في التخطيط والواجهات, والاهتمام بفكرة الزمن والحركة في العمارة, أي توظيف فكرة العمارة الديناميكية, إلي جانب الولع باستخدام الألوان الصارخة والخطوط المنحنية. كانوا يهدفون لما سمي في ذلك الوقت بالخلق الفني غير المقيد. وقد أطلق أفراد تلك المجموعة علي أنفسهم في البداية اسم' الفرديين', قبل أن يعرفوا لاحقا باسم' التعبيريين', وضمت بعض أفضل المعماريين المبدعين في ذلك الوقت. وقد اشتهر عن العمارة التعبيرية صعوبة تعريفها فكانت تعرف عادة من ناحية ما لا تشترك فيه مع الحركات الأخري, كالعقلانية والمستقبلية والبنائية.. إلخ, أكثر من تعريفها عن طريق ما تتصف وتتميز هي به تحديدا. وهناك شيء من الحقيقة في الرأي القائل بأن التعبيرية هي نزعة مستمرة ومتكررة الحدوث في العمارة الحديثة. وقد بلغت العمارة التعبيرية ذروة نجاحها وازدهارها في الفترة ما بين عامي1914-.1921 أحد أهم المشروعات التعبيرية في تلك الفترة كان المسرح الكبير في برلين(1919) للمعماري هانس بولتسيج(1869-1936), والذي قام بتصميمه بتكليف مباشر من المخرج المسرحي ماكس راينهارت مؤسس حركة' مسرح الشعب' التي انتشرت في ألمانيا في أواخر القرن التاسع عشر. اعتبر المسرح الكبير مثالا نموذجيا للعمارة التعبيرية, وعرض الاتجاه الحديث في تصميم دور العرض السينمائية والذي تم إتباعه فيما بعد. كانت قاعة العرض, التي تتسع لخمسة آلاف مشاهد, تستدعي منظر المغارات في الجبال, حيث كانت أسقف القبة مغطاة بعدد كبير من أشكال الهوابط الرسوبية المدببة التي تتدلي من سقوف الكهوف الصخرية, وقد صنعت هذه الأشكال من الجص واستخدمت لخلق الجو الغريب والغامض للفراغ الداخلي. واعتمد بولتسيج في إضاءة قاعة العرض علي نظام الإضاءة غير المباشرة, وقام بتصميم الحوائط بأسلوب يعكس الضوء الساقط بشكل مثير, إلي جانب توظيف عنصر اللون في الفراغات الداخلية لتحقيق نوع من الإثارة الحسية. وفي الخارج, استخدم بولتسيج العقود الطويلة الضيقة المدببة لتأكيد الإيقاع الرأسي, والذي بدوره يزيد من الشعور بالارتفاع وضخامة المبني. وتعتبر أعمال ما بعد الحرب العالمية الأولي للمعماري إيريش مندلسون(1887-1953) من علامات الحركة التعبيرية أيضا, وخاصة رسوماته الديناميكية التي قام بعمل معظمها بينما كان يقاتل علي الجبهة الألمانية, وكانت لمباني تشكيلية ذات صبغة مستقبلية, ولا تحمل أي طابع تاريخي معين. وقد عكست هذه الرسومات بدورها مدي تأثر مندلسون بالحركة المستقبلية الإيطالية, والتي كانت أعمالها تتسم باستخدام الخطوط المائلة والأشكال الإهليليجية. وقد حقق مندلسون طموحاته وأفكاره تلك في برج إينشتين في بوتسدام(1921), والذي يعتبر أحد أكثر الأعمال المعمارية التعبيرية ابتكارا. قامت الحكومة الألمانية بتمويل المشروع ليكون معملا فيزيائيا ومرصدا فلكيا للعالم الألماني ألبرت إينشتين. حمل المبني شكلا يوحي بوحش جاثم ذي رقبة عالية ومخالب أمامية ممتدة. وكان مندلسون يأمل في تنفيذ تلك الخطوط المنحنية, والتي تعبر عن غموض العالم غير المكتشف, باستخدام الخرسانة المسلحة لسهولة تشكيلها ولقدرتها علي صياغة هذا الشكل التعبيري القوي. ولكن نتيجة للصعوبات التي واجهته في توفير الخامات المطلوبة بسبب أزمات ما بعد الحرب, اضطر إلي تنفيذ أجزاء منه بالطوب وأخري بالخرسانة المسلحة. وحتي يظهر البناء الخارجي في النهاية وكأنه منحوت من قطعة واحدة وليس مبنيا من مواد مختلفة, فقد غطي أسطح المبني بالأسمنت, وبهذا نجح مندلسون في جعل هذا المبني أحد أهم الإنجازات المعمارية في القرن العشرين. كانت العمارة التعبيرية رافدا ومصدرا حيويا للتوجهات التقدمية التي ظهرت في العشرينات في ألمانيا, ولاحقا في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية, غير أنها كانت قصيرة العمر وحلت محلها سريعا الحركة الحديثة, حيث أخذ المعماريون في التصميم بأسلوب أكثر عقلانية ووظيفية يناسب متطلبات القرن العشرين. لمزيد من مقالات د. جلال الشايب